دافيد هيوم.. السيرة الشخصية
ولد دافيد هيوم في 7 أيار (26 نيسان حسب النمط القديم) عام 1711 في مدينة إدنبره في أسكتلندا، وتوفي في 25 آب عام 1776، وهو فيلسوف أسكتلندي ومؤرخ واقتصادي وكاتب مقال، اشتهر خصوصًا بفلسفته التجريبية والشكوكية.
تصور هيوم أن الفلسفة هي العلم الاستقرائي والتجريبي للطبيعة البشرية. وباتخاذه المنهج العلمي للفيزيائي الإنجليزي الشهير إسحاق نيوتن قدوةً له، والاعتماد على نظرية المعرفة للفيلسوف الإنجليزي جون لوك، حاول هيوم وصف الطريقة التي يعمل بها العقل البشري في سبيل حصوله على ما يُسمى المعرفة. واستنتج أنه لا يمكن إيجاد أي نظرية ممكنة للواقع ولا يمكن معرفة أي شيء إلا بإخضاعه للتجربة. ومع الأثر المستمر حتى الآن لنظريته في المعرفة، يبدو أن هيوم عدّ نفسه فيلسوفًا أخلاقيًا من الدرجة الأولى.
بداية حياته وأعماله
كان هيوم الابن الأصغر لجوزيف هيوم، لورد ناينويلز ذي الظروف المتواضعة. ناينويلز هي مقاطعة صغيرة مجاورة لقرية تشيرنسايد، تبعد نحو تسعة أميال عن بيرويك-أبون-تويد على الجانب الأسكتلندي من الحدود. أما والدته كاثرين فهي ابنة السيد دافيد فالكونر رئيس مجلس المحكمة الإسكتلندية، وكان موجودًا في إدنبره عندما وُلد.
توفي والده عندما كان في الثالثة من عمره، ودخل جامعة إدنبره عندما بلغ نحو 12 عامًا، ليتركها بعمر 14 أو 15 عامًا وكان ذلك أمرًا طبيعيًا آنذاك.
ضُغط عليه قليلًا في وقت لاحق لدراسة الحقوق -حسب التقاليد العائلية من كلا الجانبين- لكنه وجدها مقيتة، وعوضًا عن ذلك قرأ بنهم في مجالات أوسع، اكتشافه الفكري وما نتج عنه من شدة وإثارة سبب له انهيارًا عصبيًا سنة 1729، واستغرق التعافي منه عدة سنوات.
بعدما حاول العمل لأول مرة في مكتب تاجر في بريستول عام 1734 م، وصل إلى نقطة التحول في حياته، فتقاعد وذهب إلى فرنسا. أمضى معظم هذا الوقت في مدينة لافلش الواقعة على نهر لوار في مقاطعة أنجو القديمة، يدرس ويكتب أطروحته حول الطبيعة البشرية، الأطروحة كانت محاولة هيوم لصوغ نظام فلسفي متكامل. مقسمة إلى 3 كتب:
الكتاب الأول «في الفهم» يناقش بالترتيب أصل الأفكار، والأفكار المتعلقة بالمكان والزمان والمعرفة والاحتمال، متضمنةً طبيعة السببية والآثار المشكوك فيها لتلك النظريات.
الكتاب الثاني «في العواطف» يصف آلية نفسية مفصلة لشرح النظام المؤثر أو العاطفي في البشر، ويعطي دورًا ثانويًا للسبب في هذه الآلية.
الكتاب الثالث «في الأخلاق» يميز الخير الأخلاقي فيما يتعلق بمشاعر الموافقة أو الرفض التي يشعر بها الناس عندما ينظرون إلى سلوك بشري في ضوء ما ينتج عنه من عواقب مقبولة أو بغيضة، سواءً لأنفسهم أو للآخرين.
ومع أن الأطروحة تعد أكثر التعبيرات وضوحًا وشمولًا لتفكيره، فإنه في أواخر حياته تبرأ منها تمامًا، وعدها مجرد كتابة طفولية، وأعلن أن كتاباته الأخيرة فقط هي التي تعبر عن آرائه.
لم تُبنَ الأطروحة بطريقة جيدة، فنراها في أجزاء معينة خفية ومربكة بسبب الغموض الواضح في بعض المصطلحات الهامة مثل «السبب»، وتشوبها المبالغة المقصودة في الكلام، أو بالأحرى الاعترافات الشخصية المصطنعة.
لهذا فإن استنكاره الناضج بعد ذلك لم يكن في غير محله تمامًا، ومع ذلك يُعد الكتاب الأول من الأطروحة هو الأكثر قراءةً عند الفلاسفة الأكاديميين من بين كل كتاباته اللاحقة.
بعد عودته إلى إنجلترا سنة 1737 بدأ نشر الأطروحة. نشر الكتاب الأول والثاني في مجلدين سنة 1739 وظهر الثالث في العام التالي. الاستقبال الفاتر لعمله الأول الطموح جدًا أصابه بالاكتئاب، وصفه لاحقًا في سيرته الذاتية بأنه «وُلد ميتًا وكأنه لم يوجد أبدًا بسبب الصحافة، ودون أن يبلغ حتى القدر الكافي من الاختلاف لإثارة البلبلة بين المتزمتين».
لكن مشروعه اللاحق «مقالات سياسية وأخلاقية 1741-1742» حظي ببعض النجاح. وربما هذا ما أعطاه بعض الشجاعة للترشح لرئاسة قسم الفلسفة الأخلاقية في إدنبره عام 1777. ادعى المعترضون على ذلك أن هيوم يمارس الهرطقة وحتى الإلحاد واتخذوا من أطروحته دليلًا (حتى السيرة الذاتية لهيوم لم تسلم من الملاحظات).
بعد إخفاقه غادر هيوم المدينة التي عاش بها منذ 1740، وبدأ مرحلة من التجوال، وقضى سنة مؤسفة بالقرب من سانت ألبانز حيث عمل مدرسًا لماركيز أنانديل المجنون (1745-1746)، وعمل بضعة أشهر سكرتيرًا للجنرال جيمس سانت كلير، أحد أفراد عائلة أسكتلندية بارزة، الذي تعرف معه على العمل العسكري من طريق بعثة فاشلة إلى بريتيني (1746)، وأمضى وقتًا أطول مما توقع في لندن وناينويلز، ثم بقي بعد ذلك عدة أشهر أخرى مع الجنرال سانت كلير في سفارة لمحاكم فيينا وتورينو (1748-1749).
دافيد هيوم فيلسوفًا
تصور هيوم الفلسفة أنها العلم الاستقرائي للطبيعة البشرية، وتوصل إلى أن البشر مخلوقات حساسة ومليئة بالعواطف العملية أكثر من كونها عقلانية. أهمية هيوم تكمن للعديد من الفلاسفة والمؤرخين في حقيقة أن إيمانويل كانط تصور فلسفته النقدية بوصفها رد فعل مباشر لفلسفة هيوم، عبر كانط عن ذلك بقوله: «لقد أنقذني هيوم من سباتي الدوغمائي (العقائدي)».
كان هيوم أحد عوامل التأثير التي قادت أوغست كومت عالم الرياضيات والاجتماع الفرنسي في القرن التاسع عشر لتطوير الفلسفة الوضعية. ونرى في بريطانيا تأثير هيوم الإيجابي في جيريمي بنثام الفيلسوف والخبير القانوني في القرن التاسع عشر، الذي انتقل إلى الفلسفة النفعية -النظرية الأخلاقية القائلة بأن السلوك الصحيح يتحدد حسب الفائدة النابعة من نتائجه- بالكتاب الثالث من الأطروحة، وأثر بدرجة كبيرة في الفيلسوف والاقتصادي جون ستيوارت ميل، الذي عاش في وقت لاحق في القرن التاسع عشر.
بعدما وضع الشك في الفرضية القائلة بوجود علاقة وثيقة بين السبب والنتيجة، كان هيوم أول فيلسوف في زمن ما بعد العصور الوسطى يحاول إعادة صياغة شكوك القدماء. وإضافةً إلى ذلك أُعيدت الصياغة بطريقة جديدة ومقنعة. ومع إعجابه الشديد بنيوتن فإن تقويض هيوم المتقن للسببية دعا إلى الشك في الأساسيات الفلسفية لنيوتن بوصفها طريقةً لرؤية العالم، ونظرًا إلى أن العلم استند على تحديد عدد من القوانين السببية الأساسية التي تحكم العالم. نتيجةً لذلك اضطر الوضعيون في القرن التاسع عشر إلى الصراع مع تشكيك هيوم في السببية، إذ رغبوا بتحقيق هدفهم المتمثل في جعل العلم الإطار المركزي للتفكير البشري بنجاح.
كان مذهب هيوم الواقعي هو ما جذب الانتباه إليه في معظم القرن العشرين أكثر من شكوكه، خاصةً بين الفلاسفة التحليليين. تكمن طبيعية هيوم في اعتقاده بأن التبرير الفلسفي لا يمكن أن يكون راسخًا إلا في انتظام العالم الطبيعي.
كانت جاذبية هذا النزاع للفلاسفة التحليليين أنه يقدم حلاً للمشاكل الناشئة عن التقليد المتشكك الذي بذل هيوم نفسه الكثير من الجهد لتنشيطه في دوره الفلسفي الآخر.
المصدر
ولد دافيد هيوم في 7 أيار (26 نيسان حسب النمط القديم) عام 1711 في مدينة إدنبره في أسكتلندا، وتوفي في 25 آب عام 1776، وهو فيلسوف أسكتلندي ومؤرخ واقتصادي وكاتب مقال، اشتهر خصوصًا بفلسفته التجريبية والشكوكية.
تصور هيوم أن الفلسفة هي العلم الاستقرائي والتجريبي للطبيعة البشرية. وباتخاذه المنهج العلمي للفيزيائي الإنجليزي الشهير إسحاق نيوتن قدوةً له، والاعتماد على نظرية المعرفة للفيلسوف الإنجليزي جون لوك، حاول هيوم وصف الطريقة التي يعمل بها العقل البشري في سبيل حصوله على ما يُسمى المعرفة. واستنتج أنه لا يمكن إيجاد أي نظرية ممكنة للواقع ولا يمكن معرفة أي شيء إلا بإخضاعه للتجربة. ومع الأثر المستمر حتى الآن لنظريته في المعرفة، يبدو أن هيوم عدّ نفسه فيلسوفًا أخلاقيًا من الدرجة الأولى.
بداية حياته وأعماله
كان هيوم الابن الأصغر لجوزيف هيوم، لورد ناينويلز ذي الظروف المتواضعة. ناينويلز هي مقاطعة صغيرة مجاورة لقرية تشيرنسايد، تبعد نحو تسعة أميال عن بيرويك-أبون-تويد على الجانب الأسكتلندي من الحدود. أما والدته كاثرين فهي ابنة السيد دافيد فالكونر رئيس مجلس المحكمة الإسكتلندية، وكان موجودًا في إدنبره عندما وُلد.
توفي والده عندما كان في الثالثة من عمره، ودخل جامعة إدنبره عندما بلغ نحو 12 عامًا، ليتركها بعمر 14 أو 15 عامًا وكان ذلك أمرًا طبيعيًا آنذاك.
ضُغط عليه قليلًا في وقت لاحق لدراسة الحقوق -حسب التقاليد العائلية من كلا الجانبين- لكنه وجدها مقيتة، وعوضًا عن ذلك قرأ بنهم في مجالات أوسع، اكتشافه الفكري وما نتج عنه من شدة وإثارة سبب له انهيارًا عصبيًا سنة 1729، واستغرق التعافي منه عدة سنوات.
بعدما حاول العمل لأول مرة في مكتب تاجر في بريستول عام 1734 م، وصل إلى نقطة التحول في حياته، فتقاعد وذهب إلى فرنسا. أمضى معظم هذا الوقت في مدينة لافلش الواقعة على نهر لوار في مقاطعة أنجو القديمة، يدرس ويكتب أطروحته حول الطبيعة البشرية، الأطروحة كانت محاولة هيوم لصوغ نظام فلسفي متكامل. مقسمة إلى 3 كتب:
الكتاب الأول «في الفهم» يناقش بالترتيب أصل الأفكار، والأفكار المتعلقة بالمكان والزمان والمعرفة والاحتمال، متضمنةً طبيعة السببية والآثار المشكوك فيها لتلك النظريات.
الكتاب الثاني «في العواطف» يصف آلية نفسية مفصلة لشرح النظام المؤثر أو العاطفي في البشر، ويعطي دورًا ثانويًا للسبب في هذه الآلية.
الكتاب الثالث «في الأخلاق» يميز الخير الأخلاقي فيما يتعلق بمشاعر الموافقة أو الرفض التي يشعر بها الناس عندما ينظرون إلى سلوك بشري في ضوء ما ينتج عنه من عواقب مقبولة أو بغيضة، سواءً لأنفسهم أو للآخرين.
ومع أن الأطروحة تعد أكثر التعبيرات وضوحًا وشمولًا لتفكيره، فإنه في أواخر حياته تبرأ منها تمامًا، وعدها مجرد كتابة طفولية، وأعلن أن كتاباته الأخيرة فقط هي التي تعبر عن آرائه.
لم تُبنَ الأطروحة بطريقة جيدة، فنراها في أجزاء معينة خفية ومربكة بسبب الغموض الواضح في بعض المصطلحات الهامة مثل «السبب»، وتشوبها المبالغة المقصودة في الكلام، أو بالأحرى الاعترافات الشخصية المصطنعة.
لهذا فإن استنكاره الناضج بعد ذلك لم يكن في غير محله تمامًا، ومع ذلك يُعد الكتاب الأول من الأطروحة هو الأكثر قراءةً عند الفلاسفة الأكاديميين من بين كل كتاباته اللاحقة.
بعد عودته إلى إنجلترا سنة 1737 بدأ نشر الأطروحة. نشر الكتاب الأول والثاني في مجلدين سنة 1739 وظهر الثالث في العام التالي. الاستقبال الفاتر لعمله الأول الطموح جدًا أصابه بالاكتئاب، وصفه لاحقًا في سيرته الذاتية بأنه «وُلد ميتًا وكأنه لم يوجد أبدًا بسبب الصحافة، ودون أن يبلغ حتى القدر الكافي من الاختلاف لإثارة البلبلة بين المتزمتين».
لكن مشروعه اللاحق «مقالات سياسية وأخلاقية 1741-1742» حظي ببعض النجاح. وربما هذا ما أعطاه بعض الشجاعة للترشح لرئاسة قسم الفلسفة الأخلاقية في إدنبره عام 1777. ادعى المعترضون على ذلك أن هيوم يمارس الهرطقة وحتى الإلحاد واتخذوا من أطروحته دليلًا (حتى السيرة الذاتية لهيوم لم تسلم من الملاحظات).
بعد إخفاقه غادر هيوم المدينة التي عاش بها منذ 1740، وبدأ مرحلة من التجوال، وقضى سنة مؤسفة بالقرب من سانت ألبانز حيث عمل مدرسًا لماركيز أنانديل المجنون (1745-1746)، وعمل بضعة أشهر سكرتيرًا للجنرال جيمس سانت كلير، أحد أفراد عائلة أسكتلندية بارزة، الذي تعرف معه على العمل العسكري من طريق بعثة فاشلة إلى بريتيني (1746)، وأمضى وقتًا أطول مما توقع في لندن وناينويلز، ثم بقي بعد ذلك عدة أشهر أخرى مع الجنرال سانت كلير في سفارة لمحاكم فيينا وتورينو (1748-1749).
دافيد هيوم فيلسوفًا
تصور هيوم الفلسفة أنها العلم الاستقرائي للطبيعة البشرية، وتوصل إلى أن البشر مخلوقات حساسة ومليئة بالعواطف العملية أكثر من كونها عقلانية. أهمية هيوم تكمن للعديد من الفلاسفة والمؤرخين في حقيقة أن إيمانويل كانط تصور فلسفته النقدية بوصفها رد فعل مباشر لفلسفة هيوم، عبر كانط عن ذلك بقوله: «لقد أنقذني هيوم من سباتي الدوغمائي (العقائدي)».
كان هيوم أحد عوامل التأثير التي قادت أوغست كومت عالم الرياضيات والاجتماع الفرنسي في القرن التاسع عشر لتطوير الفلسفة الوضعية. ونرى في بريطانيا تأثير هيوم الإيجابي في جيريمي بنثام الفيلسوف والخبير القانوني في القرن التاسع عشر، الذي انتقل إلى الفلسفة النفعية -النظرية الأخلاقية القائلة بأن السلوك الصحيح يتحدد حسب الفائدة النابعة من نتائجه- بالكتاب الثالث من الأطروحة، وأثر بدرجة كبيرة في الفيلسوف والاقتصادي جون ستيوارت ميل، الذي عاش في وقت لاحق في القرن التاسع عشر.
بعدما وضع الشك في الفرضية القائلة بوجود علاقة وثيقة بين السبب والنتيجة، كان هيوم أول فيلسوف في زمن ما بعد العصور الوسطى يحاول إعادة صياغة شكوك القدماء. وإضافةً إلى ذلك أُعيدت الصياغة بطريقة جديدة ومقنعة. ومع إعجابه الشديد بنيوتن فإن تقويض هيوم المتقن للسببية دعا إلى الشك في الأساسيات الفلسفية لنيوتن بوصفها طريقةً لرؤية العالم، ونظرًا إلى أن العلم استند على تحديد عدد من القوانين السببية الأساسية التي تحكم العالم. نتيجةً لذلك اضطر الوضعيون في القرن التاسع عشر إلى الصراع مع تشكيك هيوم في السببية، إذ رغبوا بتحقيق هدفهم المتمثل في جعل العلم الإطار المركزي للتفكير البشري بنجاح.
كان مذهب هيوم الواقعي هو ما جذب الانتباه إليه في معظم القرن العشرين أكثر من شكوكه، خاصةً بين الفلاسفة التحليليين. تكمن طبيعية هيوم في اعتقاده بأن التبرير الفلسفي لا يمكن أن يكون راسخًا إلا في انتظام العالم الطبيعي.
كانت جاذبية هذا النزاع للفلاسفة التحليليين أنه يقدم حلاً للمشاكل الناشئة عن التقليد المتشكك الذي بذل هيوم نفسه الكثير من الجهد لتنشيطه في دوره الفلسفي الآخر.
المصدر