إيراسموس، واسمه الكامل ديسديريوس إيراسموس، وُلد في 27 أكتوبر 1469 -أو 1466- في روتردام في هولندا، وتوفي في 12 يوليو 1536 في بازل في سويسرا، عالم إنساني هولندي، كان من أعظم علماء عصر النهضة الشمالي، وأول محرر للعهد الجديد، وشخصية مهمة أيضًا عند آباء الكنيسة وفي الأدب الكلاسيكي.
باستخدام المناهج اللغوية الرائدة التي وضعها الإنسانيون الإيطاليون، ساهم إيراسموس في وضع حجر الأساس للدراسة النقدية التاريخية للماضي، خاصةً دراساته للعهد الجديد اليوناني ولآباء الكنسية. ساهمت كتاباته التعليمية في استبدال التركيز الإنساني الجديد على الكلاسيكيات بالمناهج التربوية القديمة؛ وذلك بانتقاد الانتهاكات الكنسية، والإشارة إلى عصر أفضل في الماضي البعيد.
شجع أيضًا الرغبة المتزايدة للإصلاح، التي وجدت تعبيرًا لها في كل من الإصلاح البروتستانتي والإصلاح المضاد للكاثوليكية. إن موقفه المستقل في عصر من النزاع الطائفي العنيف -رافضًا كلًا من عقيدة القدر والسلطة البابوية- جعله هدفًا لتشكّك الأنصار المخلصين لكلا الجانبين، وفي ذات الوقت منارةً مضيئة لمن يقدرون الحرية أكثر من الأرثوذكسية.
بداية حياته ومهنته
كان إيراسموس الابن غير الشرعي الثاني للكاهن روجر جيرارد، ومارغريت وهي ابنة طبيب. ارتقى حتى المرتبة الثالثة في مدرسة سانت ليبوين في ديفنتر. وكان تلميذًا للإنساني جان سينثن، ولمدير المدرسة ألكسندر هيغيوس. كان التلميذ إيراسموس ذكيًا بما يكفي لكتابة شعر لاتيني كلاسيكي يبهر القارئين حتى الآن.بعد وفاة والديه، أرسل الأوصياء إيراسموس وشقيقه إلى مدرسة بمدينة سان هيرتوجنبوش، تديرها أخوة الحياة المشتركة، وهي حركة دينية علمانية عززت الدعوات الرهبانية. يقول إيراسموس إنه لن يتذكر عن هذه المدرسة إلا التهذيب الشديد الذي يهدف إلى تعليم التواضع بكسر روح الطفل.
لقلة الخيارات الأخرى، دخل الأخوان الدير. اختار إيراسموس دراسة الشرائع الأوغسطينية بانتظام في ستاين، قرب خاودا، ويبدو أنه مكث فيها نحو 7 سنوات (1485-1492). في ستاين أعاد صياغة كتاب لورينزو فالا «إليجانتيا»، الذي كان موجزًا من الكلاسيكية الخالصة وتصريحًا ضد برابرة التعليم الذين أفسدوه حسب زعمه. تحول رؤساء إيراسموس الرهبان إلى برابرة بالنسبة إليه بعد إثنائه عن دراساته الكلاسيكية.
بعد ترسيمه للكهنوت في أبريل 1492، كان سعيدًا بالهرب من الدير بقبوله منصب سكرتير لاتيني لهنري بيرغن أسقف كامبري.
إن كتابه «العقيدة المضادة للبرابرة»، المستند إلى مراجعات تمت عامي 1494-1495م، هو إعادة صياغة للحجج البابوية حول فائدة الكلاسيكيات الوثنية، مع التوجه الجدلي ضد الدير الذي تركه وراءه: «التعليم السليم هو تعليم علماني».
لم تناسب حياة البلاط إيراسموس، ولم تتحسن الأمور كثيرًا حين أرسله الأسقف إلى جامعة باريس لدراسة اللاهوت سنة 1495م. كان يكره النظام شبه الرهباني لكلية مونتاجو حيث استقر بدايةً، ووصف حالته خلال المحاضرات الاسكتلندية لصديقه بقوله: «بجبين مجعد وعينين لامعتين». ولدعم دراساته الكلاسيكية بدأ التدريس، وإلى هذه الفترة (1497-1500) يعود تاريخ الإصدارات المبكرة من مساهماته باللغة اللاتينية الأنيقة -متضمنةً أيضًا كتابي الندوة وأداجيا -التي لم يمض وقت طويل حتى استُخدمت في المدراس الإنسانية في جميع أنحاء أوروبا.
التأثير والإنجاز
استطاع الباحث إيراسموس دائمًا أن يرى جوانب عدة من القضية. لكن تردده وغموضه كان موضع تقدير أقل في الأجيال التي تلت وفاته، إذ كان الرجال مستعدين للقتال -لأسباب لاهوتية أو غير ذلك- في سبيل معتقداتهم.لفترة من الزمن، سنحت الفرصة لصانعي السلام من كلا الجانبين لمتابعة مناقشات جادة ذات معنى بين الكاثوليك واللوثريين، وكانت بعض الاقتراحات العلمية لإيراسموس وآراؤه اللاهوتية المعتدلة ذات صلة وثيقة. وحتى بعد أن تضاءل مبدأ المسكونية إلى مجرد فكرة محتملة، ظل عدد قليل من الرجال مستعدين ليكونوا ورثة كفاح إيراسموس الوحيد لإيجاد حل وسط، مثل جاك أوغست دي تو في فرنسا وهوغو غروتيس في هولندا، إذ كانا مؤيدين قويين لسلطة الدولة وطمحا إلى الحد من تأثير رجال الدين في كنائسهم.
ربما كان هذا التقليد أقوى في هولندا، حيث وجد ديرك فولكرتسزون كورنهرت وآخرون في إيراسموس الدعم لتأييدهم التسامح المحدود مع المذاهب الدينية الأخرى. وفي ذات الوقت، حدّ مجلس ترينت وصعود مذهب الكالفينية من تأثير مثل تلك الآراء.
احتوى الفهرس الكاثوليكي «التطهير» سنة 1571م قائمة طويلة من المقاطع المشتبه بها لتُحذف من أي طبعات مستقبلية لكتابات إيراسموس، وتلك النزعات البروتستانتية التي تحمل بعض المفاضلة لدفاع إيراسموس عن الإرادة الحرة -شائعة بين الفيليبيين في ألمانيا والأرمينيين في هولندا- دحرها المدافعون عن الأرثوذكسية الصارمة. حتى في قاعات الدرس، فإن تفضيل إيراسموس وضع الطلاب على اتصال مباشر مع الكلاسيكية سمح باستخدام ملخصات البلاغة الإنسانية والمنطق، وذلك نهج مشابه للمناهج الدراسية الماضية. وبالمثل، فإن المزاج العلمي الجريء والمستقل الذي اقترب به إيراسموس من نص العهد الجديد ظل مغمورًا فترةً طويلة بمتطلبات الجدل اللاهوتي.
أخذت سمعة إيراسموس في التحسن في أواخر القرن السابع عشر، مع تراجع الحروب الدينية في أوروبا، واتخذ علماء مثل ريتشارد سيمون وجان لو كليرك -محرر أعمال إيراسموس- نهجًا أكثر انتقادًا لنصوص الكتاب المقدس. بحلول عهد فولتير، في القرن الثامن عشر، كان من الممكن تصور أن إيراسموس الذكي -أو المتشكك- هو بالتأكيد فيلسوف سابق لعصره، أما إظهاره الالتزام الديني وخضوعه لسلطة الكنيسة فيمكن النظر إليه بوصفه مجرد مهرب مناسب.
كان هذا الرأي عن إيراسموس، الموازي بطريقة غريبة للقيود التي وضعها منتقدوه الأرثوذكس، مؤثرًا فترةً طويلة. أخذ العلماء في العقود القليلة الماضية على عاتقهم واجب الاعتراف بحقيقة أن الهدف الحقيقي من عمل إيراسموس كان تهذيب المسيحية عبر المعرفة العميقة بجذورها التاريخية. ومع ذلك، لم يكن من الخطأ تمامًا مقارنة إيراسموس بمفكري عصر التنوير، الذين دافعوا -مثل فولتير- عن الحرية الفردية في كل منعطف، ولم يذكروا سوى القليل عن تضامن المؤسسات المختلفة التي يتماسك المجتمع البشري من خلالها.
ربما حاول بعض المؤرخين تتبع الجدل المستمر بين هذه الجوانب المكملة للفكر الغربي بالعودة إلى القرن الثاني عشر، وبهذا المعنى الواسع جدًا نرى إيراسموس وفولتير على نفس الجانب من الانقسام، تمامًا مثل ميكيافيلي وروسو على الجانب الآخر. بطريقة فريدة من نوعها دُمجت هوياته المتعددة -بوصفه هولنديًا، مقاومًا ومدافعًا إنسانيًا في فترة ما قبل مجلس ترينت الكاثوليكي- وساعد إيراسموس على بناء ما يُطلق عليه التقليد الليبرالي للثقافة الأوروبية.
المصدر