القصيبي والمتنبي .. روحٌ في جسدين .. عاشت في زمنين ..
كل مهموم بالشأن الأدبي في زماننا هذا لا بد أن يكون اطلع على شيء من سيرة الشاعر المتفرد أبي الطيب المتنبي -لذلك استحق لقب مالئ الدنيا وشاغل الناس- كما أن كل مهتم بالأدب لابد أن يكون مر على شيء من أدب الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- .
كثيرون ممن اطلعوا على شيء من سيرة العلمين ونتاجهما الأدبي خلصوا إلى نتيجة ، وهي : ثمة تشابه بينهما في عدة أمور ..
منها :
أنهما ترعرعا بعيداً عن الأم التي صادف أنها ماتت بعد ولادة غازي بأشهر فعاش بين والده الحازم وبين جدته التي تفيض رحمة وحنوا ..
كذلك كان أبو الطيب فقد أشارت كتب التراث أنه نشأ تحت رعاية جدته ..
ولن يفوتني هنا الإشارة إلى رثائه لجدته التي ماتت فرحاً حين وردها كتابه الذي ذكر فيه أنه قادم ليزورها !
كتب في رثائها أبياتاً تقطر دمعاً وأسىً ..
ومنها :
عرَفْتُ اللّيالي قَبلَ ما صَنَعَتْ بنا فلَمَا دَهَتْني لم تَزِدْني بها عِلْمَا
مَنافِعُها ما ضَرّ في نَفْعِ غَيرِها تغذّى وتَرْوَى أن تجوعَ وأن تَظْمَا
أتاها كِتابي بَعدَ يأسٍ وتَرْحَةٍ فَماتَتْ سُرُوراً بي فَمُتُّ بها غَمّا
ومما يميز شخصية المتنبي اعتداده الكبير بنفسه لدرجة لا تصدق -لغازي من ذلك نصيب أيضاً- ، فتجد المتنبي لا ينسى ذلك حتى عند رثاء جدته مثلاً في القصيدة السابقة قال :
ولَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا !
من أوجه الشبه بينهما كذلك نبوغهما من بين أقرانهما ، فكثر حاسدوهما ومعادوهما ..
ولا يخفى ذلك في شعر المتنبي ..
خذ مثلاً :
عَذْلُ العَواذِلِ حَوْلَ قَلبي التّائِهِ وَهَوَى الأحِبّةِ مِنْهُ في سَوْدائِهِ
ما جعلهما ينزعان إلى التشاؤم ..
يقول القصيبي لـ«الشرق الأوسط»: “المتنبي ينتقم مني كل لحظة، ويتشفى بانتقامه. عندما كنت شابا في مقتبل العمر (في العشرين أو نحوها) كنت أكره المتنبي. كنت أرى فيه شخصية سوداوية مليئة بالكراهية والتشاؤم والغضب العبثي. كنت أقول كيف يمكن لشاعر أن يقول:
ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس… روى رمحه غير راحم؟
وكنت أقول: أي شاعر هذا الذي يستطيع أن يقول:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة.. فلعله لا يظلم؟
ويقول: كنت أردد أبياتا كثيرة له من هذا الطراز، ثم – عندما أزمع ركب العمر رحلة نحو المغاني الأخر – كما يقول (إبراهيم) ناجي – بدأت أكتشف أن ما قاله الأستاذ، لا ما كنت أحلم به في صباي، يمثل، للأسف الشديد، التشخيص الأدق للطبيعة البشرية.”
ومما يجمعهما أيضاً طموحهما الكبير وخوضهما للمعارك بشكل دائمٍ .. فالمتنبي كان يخوض معركة شعرية تلو الأخرى أما غازي فمعاركه من نوع آخر .. كان يخوض معاركه من خلال خططه الوزارية ومجازره الإدارية -كما يصفها منتقدوه بطبيعة الحال- !
توج القصيبي هذا الشبه الكبير بينهما بقصيدته الشهيرة (رسالة المتنبي الأخيرة لسيف الدولة) ..
التي بدأها بقوله :
بيني وبينك ألف واش ينعب فعلام أسهب في الغناء وأطنب
صوتي يضيع ولا تحس برجعه ولقد عهدتك حين أنشد تطرب
إلى أن يقول :
بيني وبينك ألف واش يكذب وتظل تسمعه .. ولست تكذب
خدعوا فأعجبك الخداع ولم تكن من قبل بالزيف المعطر تعجب
ويواصل القصيبي معاتباً :
أزف الفراق … فهل أودع صامتاً أم أنت مصغ للعتاب فأعتب
ويختم قصيدته على طريقة أبي الطيب :
أنا شاعر الدنيا تبطن ظهرها شعري … يشرق عبرها ويغرب
أنا شاعر الأفلاك كل كليمة مني … على شفق الخلود تلهب !
ومناسبة القصيدة كما ذكرها غازي نفسه : أنه حين كان وزيراً للصحة أعد حزمة مطالب لإصلاح الوزارة في ذلك الوقت لكن الملك فهد لم يوافق عليها -ولم يكن يرد طلبات غازي قبل ذلك- ما عده غازي اهتزازاً لثقة الملك به .. فنشر القصيدة قبل أن يعفيه الملك فهد وقتها ..
شبيهة قصيدته تلك بقصيدة المتنبي :
واحر قلباه ممن قلبه شبِم ومن بجسمي وحالي عنده سقم
التي قال فيها المتنبي أيضاً :
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وقال أيضاً فيها :
يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم !
ثم يقول مودعاً :
يا من يعز علينا أن نفارقكم وجداننا كل شيء بعدكم عدم
وشعرهما مليء بالتشابه بشكل لا يتسع المقام هنا لحصره ..
لكن لنذكر وجهاً للاختلاف واحداً بينهما !
من تحدثوا عن المتنبي ذكروا أنه كان يسعى للمنصب لكنه لم يحظ به أبداً !
أما غازي فتشبع من المناصب بل لقد أفنى شبابه متنقلاً بين الوزارات والسفارات !
هل لي أن أقول : إن روح المتنبي التي سكنت غازي حققت ما كان يطمح إليه المتنبي بعد عدة قرون ؟!
ربما ..
كل مهموم بالشأن الأدبي في زماننا هذا لا بد أن يكون اطلع على شيء من سيرة الشاعر المتفرد أبي الطيب المتنبي -لذلك استحق لقب مالئ الدنيا وشاغل الناس- كما أن كل مهتم بالأدب لابد أن يكون مر على شيء من أدب الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- .
كثيرون ممن اطلعوا على شيء من سيرة العلمين ونتاجهما الأدبي خلصوا إلى نتيجة ، وهي : ثمة تشابه بينهما في عدة أمور ..
منها :
أنهما ترعرعا بعيداً عن الأم التي صادف أنها ماتت بعد ولادة غازي بأشهر فعاش بين والده الحازم وبين جدته التي تفيض رحمة وحنوا ..
كذلك كان أبو الطيب فقد أشارت كتب التراث أنه نشأ تحت رعاية جدته ..
ولن يفوتني هنا الإشارة إلى رثائه لجدته التي ماتت فرحاً حين وردها كتابه الذي ذكر فيه أنه قادم ليزورها !
كتب في رثائها أبياتاً تقطر دمعاً وأسىً ..
ومنها :
عرَفْتُ اللّيالي قَبلَ ما صَنَعَتْ بنا فلَمَا دَهَتْني لم تَزِدْني بها عِلْمَا
مَنافِعُها ما ضَرّ في نَفْعِ غَيرِها تغذّى وتَرْوَى أن تجوعَ وأن تَظْمَا
أتاها كِتابي بَعدَ يأسٍ وتَرْحَةٍ فَماتَتْ سُرُوراً بي فَمُتُّ بها غَمّا
ومما يميز شخصية المتنبي اعتداده الكبير بنفسه لدرجة لا تصدق -لغازي من ذلك نصيب أيضاً- ، فتجد المتنبي لا ينسى ذلك حتى عند رثاء جدته مثلاً في القصيدة السابقة قال :
ولَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا !
من أوجه الشبه بينهما كذلك نبوغهما من بين أقرانهما ، فكثر حاسدوهما ومعادوهما ..
ولا يخفى ذلك في شعر المتنبي ..
خذ مثلاً :
عَذْلُ العَواذِلِ حَوْلَ قَلبي التّائِهِ وَهَوَى الأحِبّةِ مِنْهُ في سَوْدائِهِ
ما جعلهما ينزعان إلى التشاؤم ..
يقول القصيبي لـ«الشرق الأوسط»: “المتنبي ينتقم مني كل لحظة، ويتشفى بانتقامه. عندما كنت شابا في مقتبل العمر (في العشرين أو نحوها) كنت أكره المتنبي. كنت أرى فيه شخصية سوداوية مليئة بالكراهية والتشاؤم والغضب العبثي. كنت أقول كيف يمكن لشاعر أن يقول:
ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس… روى رمحه غير راحم؟
وكنت أقول: أي شاعر هذا الذي يستطيع أن يقول:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة.. فلعله لا يظلم؟
ويقول: كنت أردد أبياتا كثيرة له من هذا الطراز، ثم – عندما أزمع ركب العمر رحلة نحو المغاني الأخر – كما يقول (إبراهيم) ناجي – بدأت أكتشف أن ما قاله الأستاذ، لا ما كنت أحلم به في صباي، يمثل، للأسف الشديد، التشخيص الأدق للطبيعة البشرية.”
ومما يجمعهما أيضاً طموحهما الكبير وخوضهما للمعارك بشكل دائمٍ .. فالمتنبي كان يخوض معركة شعرية تلو الأخرى أما غازي فمعاركه من نوع آخر .. كان يخوض معاركه من خلال خططه الوزارية ومجازره الإدارية -كما يصفها منتقدوه بطبيعة الحال- !
توج القصيبي هذا الشبه الكبير بينهما بقصيدته الشهيرة (رسالة المتنبي الأخيرة لسيف الدولة) ..
التي بدأها بقوله :
بيني وبينك ألف واش ينعب فعلام أسهب في الغناء وأطنب
صوتي يضيع ولا تحس برجعه ولقد عهدتك حين أنشد تطرب
إلى أن يقول :
بيني وبينك ألف واش يكذب وتظل تسمعه .. ولست تكذب
خدعوا فأعجبك الخداع ولم تكن من قبل بالزيف المعطر تعجب
ويواصل القصيبي معاتباً :
أزف الفراق … فهل أودع صامتاً أم أنت مصغ للعتاب فأعتب
ويختم قصيدته على طريقة أبي الطيب :
أنا شاعر الدنيا تبطن ظهرها شعري … يشرق عبرها ويغرب
أنا شاعر الأفلاك كل كليمة مني … على شفق الخلود تلهب !
ومناسبة القصيدة كما ذكرها غازي نفسه : أنه حين كان وزيراً للصحة أعد حزمة مطالب لإصلاح الوزارة في ذلك الوقت لكن الملك فهد لم يوافق عليها -ولم يكن يرد طلبات غازي قبل ذلك- ما عده غازي اهتزازاً لثقة الملك به .. فنشر القصيدة قبل أن يعفيه الملك فهد وقتها ..
شبيهة قصيدته تلك بقصيدة المتنبي :
واحر قلباه ممن قلبه شبِم ومن بجسمي وحالي عنده سقم
التي قال فيها المتنبي أيضاً :
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وقال أيضاً فيها :
يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم !
ثم يقول مودعاً :
يا من يعز علينا أن نفارقكم وجداننا كل شيء بعدكم عدم
وشعرهما مليء بالتشابه بشكل لا يتسع المقام هنا لحصره ..
لكن لنذكر وجهاً للاختلاف واحداً بينهما !
من تحدثوا عن المتنبي ذكروا أنه كان يسعى للمنصب لكنه لم يحظ به أبداً !
أما غازي فتشبع من المناصب بل لقد أفنى شبابه متنقلاً بين الوزارات والسفارات !
هل لي أن أقول : إن روح المتنبي التي سكنت غازي حققت ما كان يطمح إليه المتنبي بعد عدة قرون ؟!
ربما ..