عملاق الفكر الإسلامي(الشهيد سيد قطب)
بقلم: الدكتور عبد الله عزام
الطبعة: الأولى
نشر وتوزيع
مركز شهيد عزام الإعلامي
يشاور-باكستان
بسم الله الرحمن الرحيم
رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري
إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم.. أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم.. أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق ، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق ، (إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة ، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء)(1). 1- دراسات إسلامية (931).
(إن الدخول في الإسلام صفقة بين متبايعين.. .الله سبحانه هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع ، فهي بيعة مع الله ، لا يبقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ، ولا في ماله.. لتكون كلمة الله هي العليا ، وليكون الدين كله لله)(1). 1- (في ظلال القرآن (11/6171) ط/الشروق.
حياة سيد قطب تنقسم إلى أقسام
1- حياته الأدبية.
2- اتجاهه الإسلامي العام.
3- اتجاهه الإسلامي المجدد.
أولا : حياته الأدبية.
تنقسم إلى عدة مراحل:
المرحلة الأولى: بيئته في البيت والقرية قبل دخوله دار العلوم.
المرحلة الثانية: الدراسة في كلية دار العلوم.
المرحلة الثالثة: عمله كمدرس واهتمامه بقول الشعر ، والصبغة العامة لشعره وتأملاته ، وصلته بعبد القادر حمزة ثم عباس العقاد ، ومقالاته وقصائده في هذه المرحلة في المجلات المعروفة مثل دار العلوم والرسالة والجهاد والبلاغ.
المرحلة الرابعة: اهتمامه بالنقد الأدبي ونظرته في الصور والظلال والأحاسيس كتلميذ في مدرسة العقاد الأدبية ، وتتوجت هذه المرحلة بمعركته الأدبية في الرسالة مع أنصار الرافعي وتأييده للعقاد.
المرحلة الخامسة: مرحلة خمود أدبه لم يظهر له فيها إنتاج إلا القليل وهي تمتد طيلة الحرب العالمية الثانية.
المرحلة السادسة: ظهوره كناقد أدبي مشهور من خلال مقالاته في الرسالة -بعضها ظهر في كراريس كتب وشخصيات- ومحاولة تصنيف المذاهب الفنية الأدبية كمدارس ووضع سمات لكل مدرسة مثل: مدرسة الرافعي ومدرسة المنفلوطي ومدرسة العقاد ، ومدرسة الزيات ، ومدرسة طه حسين ومدرسة توفيق الحكيم.
المرحلة السابعة: اتجاهه الأدبي نحو القرآن واهتمامه بدراسة وإصدار كتابين:(التصوير ، والمشاهد) بالإضافة لاهتمامه بالنقد الأدبي ومقالاته المختلفة.
المرحلة الثامنة: خروجه من مدرسة العقاد الأدبية ونقده لها ، وقد بدأ يكون لنفسه مدرسة أدبية جديدة ، وكان له التلاميذ ، وكتابه (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) نهج لهذه المدرسة.
المرحلة التاسعة: ركود أدبي لمدة عامين في أمريكا لم يظهر له من الإنتاج إلا القليل.
وفي نهاية المرحلة التاسعة وبعد أن عاد من أمريكا اتجه نحو القسم الثاني من حياته وهو اتجاهه الإسلامي العام ، ودخوله جماعة الإخوان المسلمين وهي متداخلة مع القسم الأدبي.
تاريخ تأليف سيد قطب لكتبه
1- أشواك: مايو (7491م).
2- مشاهد القيامة في القرآن: (7491م).
3- طفل من القرية: (6491م).
4- الأطياف الأربعة: (5491م).
5- التصوير الفني في القرآن: (5491م).
6- المدينة المسحورة: (6491م).
7- كتب وشخصيات: (6491م).
8- النقد الأدبي: (8491م).
9- العدالة الاجتماعية: (9491م).
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أصله ونشأته:
ولد -رحمه الله- في قرية من قرى الصعيد اسمها (موشه) سنة (6091م) ، وهي تتبع محافظة أسيوط لأبوين كريمين متوسطي الحال ، يحملان سمت أهل الصعيد المصري من سمرة في البشرة ، وقسمات وجوههم تعكس بعض ما جبلت عليه فطرتهم من غيرة على العرض ، إلى الطيب المتأصل في أعماق نفوسهم ، والكرم الذي لا يفارقهم سواء في سني الجدب أو الخصب والنماء ، هذا فضلا عن العاطفة الفياضة الجياشة التي تربطهم بشدة بهذا الدين القويم ، ولقد ذكر الأستاذ سيد في مقدمة التصوير الفني في القرآن أن روح أمه المتدينة قد طبعته بطابعها ، وفي مقدمة مشاهد القيامة أنه قد تربى في مسارب نفسه الخوف من اليوم الآخر من خلال الكلمات والتصرفات التي كانت تنطلق من والده من خلال ممارسته أعماله اليومية ، والقيام بضرورياته من طعام وشراب وغيرها ، فتركت شخصية الوالدين بصماتها واضحة على قلبه.
ويقال إن أصل الأستاذ سيد قطب هندي ، وأن حسينا -جده الرابع- قد هاجر من الهند إلى أرض الحرمين حيث البيت العتيق ومثوى المصطفى ص ، ثم هاجر إلى مصر واستقر في هذه القرية المصرية.
نشأته:
درج في مراحل الطفولة الأولى في قريته في أحضان والديه اللذين أرضعاه حب هذا الدين من خلال التدين الفطري الذي طبعت عليه هذه الأنفس ، ثم انتقل إلى القاهرة حيث يسكن خاله ، وواصل تعليمه ودخل دار العلوم ، وبرزت مواهبه الأدبية إبان دراسته ، وكان يكتب في عدة مجلات أدبية وسياسية منها (الرسالة) ، (اللواء الاشتراكية) ، ولقد كتب عنه أستاذه مهدي علام في تقديمه لرسالة (مهمة الشاعر في الحياة) التي ألقاها سيد قطب كمحاضرة في دار العلوم يقول: (لو لم يكن لي تلميذ سواه لكفاني ذلك سرورا وقناعة ، ويعجبني فيه جرأته الحازمة التي لم تسفه فتصبح تهورا ، ولم تذل فتغدو جبنا ، وتعجبني فيه عصبيته البصيرة ، وإنني أعد سيد قطب مفخرة من مفاخر دار العلوم.
وفي الأربعينات تولى رئاسة تحرير مجلة (الفكر الجديد) لصاحبها محمد حلمي المنياوي ، ولقد بدت في هذه المجلة نزعة سيد قطب العدائية للملك فاروق ، وقد كان مجاهرا في نقده اللاذع حتى دس إليه فاروق من يطلق عليه النار ، فأخطأه الرصاص ، ولقد صدر من المجلة ستة أعداد صودر عددان منها ثم اضطرت الحكومة لإغلاقها بعد ستة أعداد.
ولقد تتلمذ الأستاذ سيد قطب أدبيا على يد العقاد ، وكان يتردد على طه حسين ، وحمل لواء المعارضة للأستاذ الكبير مصطفى صادق الرافعي ، وكان هجومه على الرافعي عنيفا حتى أن الرافعي لم ينج منه بعد موته فلقد نقد الرافعي إثر موته نقدا لاذعا فقام علي الطنطاوي يدافع عن الرافعي فقابله الأستاذ سيد برد مقذع حاد.
ولقد كتب في أوائل الأربعينات كتابيه الشهيرين: التصوير الفني في القرآن ، وقد أهداه إلى أمه ، ومشاهد القيامة في القرآن وأهداه إلى روح أبيه ، وكم كانت دهشة القراء عندما وجدوا أن الكتابين يخلوان من البسملة ، إذ لم يكن سيد قد اتجه الوجهة الإسلامية بعد.
بعض ملامحه وصفاته الشخصية:
1- الصدق.
إن من أبرز الصفات في نفسية سيد قطب الصدق ، وهذه الصفة طبعت كتابته كلها بالوضوح ، مما جعل تعامله مع الساسة يكاد يكون مستحيلا ، ولقد كان هذا الخط بارزا في جاهليته وإسلامه ، ففي عهد فاروق كان الكتاب يعبون من سؤره ويخطبون وده بتذليل رخيص ويتزلفون حتى يستطيعوا الانكباب على أقدامه عل هم ينالوا من الحطام ، أما سيد قطب فلقد كان رغم فقره أبيا صادقا ، ففي زواج فاروق ، وفي أعياد ميلاده ترى المقالات التي تزحم بها الصحف بأقلام الكتاب إلا سيد فإنك تفتقد اسمه بين هذه القطعان.
وتلمح هذا الصدق من خلال عباراته ، فلقد كتب في مجلة مصر الفتاه الاشتراكية تحت عنوان كبير (رعاياك يا مولاي) وأظهر صورا من الترف الفاجر وفي المقابل صور من البؤس والفاقة.
ولقد طلبت الثورة عندما قامت سنة (2591م) من سيد قطب أن يكون لها مستشارا للشؤون الداخلية فلم يستطع العمل معهم سوى ثلاثة أشهر ثم تركهم لأن نفسه لا تقبل الالتواء والتلون.
ولقد عمق الإسلام هذه الصفة في مسارب نفسه ، فأضحى الصدق عنوانا لتعامله وكلامه ينبض بكل كلمة من كلماته وتنم عنها كل عبارة من عباراته ويبدو لك هذا جليا من خلال الطبعة الثانية من الظلال ومن خلال فصول المعالم.
كان يقول لأحد تلامذته واسمه سيد أيضا ، تعال يا سيد نراجع معا فصلا من فصول هذا الكتاب ، وأنا أظن أن أبواب السجن ستفتح له ولنا من جديد وقد تنصب لنا أعواد المشانق... فيرجوه تلامذته ألا يطبع المعالم حفاظا على حياته فيرفض بإباء قائلا : لا بد أن يتم البلاغ.
وقد سأله تلاميذه لماذا كنت صريحا كل الصراحة في المحكمة التي تملك عنقك? فقال: لأن التورية لا تجوز في العقيدة ، ولأنه ليس للقائد أن يأخذ بالرخص ، ويبدو أن هذه الصفة هي الطابع المميز لأل قطب جميعا ، فلقد قالت حميدة شقيقته: كان بإمكاني أن أعفى من سجن السنوات العشر لولا أني أبيت أن أكتم عقيدتي ورفضت إلا أن أصارح الطواغيت بكفرهم.
يقول في فصل (نقلة بعيدة (معالم في الطريق 602): (لن نتدسس إلى الناس بالإسلام تدسسا ولن نربت على شهواتهم ، وتصوراتهم المنحرفة ، سنكون معهم صرحاء غاية الصراحة ، هذه الجاهلية التي فيها خبث ، والله يريد أن يطيبكم).
2- الشجاعة والرجولة.
ولقد كان خلق الرجولة بارزا في تصرفاته سواء في جاهليته أو إسلامه فلم يسف ولم يسقط ولم يهو في مهاوي الرذيلة ، ولم يغرق في مستنقعات الوحل والجنس ، وأنت تقرأ له في حبه في جاهليته قصة (أشواك) فتلمح من خلال الإهداء رجولته ، يقول في الإهداء:(إلى التي خاضت معي في الأشواك ، فدميت ودميت ، وشقيت وشقيت ، ثم سارت في طريق وسرت في طريق جريحين بعد المعركة ، لا نفسها إلى قرار ، ولا نفسي إلى استقرار).
لا تجد فيه نتن الفاحشة ، وإنما تلمح شخصية معتدلة تعبر عن تجربة بشرية بكلمات أدبية ، دون تميع ولا انحراف ولا إسفاف ولا تهافت.
وخلق الرجال وجده الإسلام خامة طيبة في أعماق الأستاذ سيد فنماها ووجهها فأتت بالأعاجيب من فوق القمة التي أرتفع إليها ، يقول في مقدمة الظلال: (وعشت في ظلال القرآن أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض ، وإلى اهتمامات أهلها الهزيلة الصغيرة ، أنظر إلى تعاجب أهل الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال وتصورات الأطفال ، واهتمامات الأطفال ، كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال ، ومحاولات الأطفال ، ولغة الأطفال ، وأعجب ، ما بال هذا الناس ، ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة).
ومن هنا داس دنيا الحكام وآثر العيش وراء قضبان الزنزانة ، وكان يقول:(إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا واحدا يقر به حكم طاغية) ، رغم أن وزارة المعارف تعرض عليه في السجن.
ويقول: (لماذا أسترحم? إن كنت محكوما بحق فأنا أرتضي حكم الحق ، وإن كنت محكوما بباطل ، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل ، بينما حبل المشنقة يلوح أمام ناظريه.
وبعد صدور حكم الإعدام وفي يوم الأحد (82/8/6691م) وقبل تنفيذ حكم الإعدام جاء قرار موقع من الطاغوت الهالك -عبد الناصرـ: (ينفذ حكم الإعدام بكل من: سيد قطب ، محمد يوسف هواش، عبد الفتاح إسماعيل ، ومع الكتاب إشارة إلى محاولة استدراج سيد قطب إلى اعتذار يخفف به حكم الإعدام عنه ، فجاء حمزة البسيوني مدير السجن الحربي إلى حميدة قطب وأطلعها على القرار ، ثم أردف قائلا : لدينا فرصة واحدة لإنقاذ الأستاذ ، وهي اعتذاره ، وأنا أتعهد بإخراجه بعد ستة أشهر ، قالت حميدة: فجئت أخي فذكرت له ذلك ، فقال: لن أعتذر عن العمل مع الله.
وفي شهر آب سنة (5691م) وهو نفس الشهر الذي اعتقل فيه أرسل إليه المباحث واحدا فتسور الدار ودخل ليفتش فأمسكه وأنبه وأدبه ، وقال: (إن للبيوت حرمات ألا تعرف أدب الدخول? ثم كتب كتابا وأرسله إلى مدير المباحث وقال: (أرسل إلي بشرا ولا ترسل كلابا ) ثم ذهب إلى قسم المباحث ، وقال: (جئتكم حتى تعتقلوني).
3- كرمه وسخاؤه.
وهذه صفة تقترن مع الشجاعة غالبا ، فحيثما وجدت صفاء النفس وسخاءها وجدت الجرأة والشجاعة ، فالنفس الأبية التي تجود بروحها يرخص عليها المال ومتاع الحياة ، ولقد كان سيد ينفق كل ما يأتيه ولا يدخر شيئا ، وكان لكثير من نزلاء ليمان طرة في أمواله شيء معلوم ، حتى من المجرمين ، ومن السجانيين ، ولقد كان يشفق على حالة السجانيين الأسرية ، وضيق ذات يدهم فيرثي لحالهم ويخفف من كربهم وضنكهم وبأسائهم.
ولقد ملك مضائه وسخائه هذا قلوب عارفيه ، وأصبح بكرمه الآسر هو المدير الفعلي لسجن ليمان طره ، حتى كان الحلواني - مدير السجن - يقول: إن المدير الفعلي للسجن هو سيد قطب ، وأقرأ إن شئت رسالته الصغيرة (أفراح الروح): (وكيف كان يفجر ينابيع فطرة الخير في قلوب المجرمين ، وفي هذه الرسالة زاد كبير للعاملين من الدعاة.
ولذا فقد مضى إلى ربه وهو لا يملك مترا واحدا فوق هذه الغبراء (فهو بصدقه وفي العهود ، وبكرمه أسر القلوب ، وبتواضعه ألف بين الجنود ، وبشجاعته وصلابته قاد الجموع).
4- تواضعه.
وهذا سمت الصالحين (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) ، وبالقدر الذي كان يستعلي به على الطغاة كان يتواضع ويتطامن للمؤمنين من تلامذته ، فترى أحدهم يشير عليه أن يحذف فقرة من مسودة التفسير أو يصحح عبارة فيستجيب.
5- حبه ووفاؤه وعاطفته الفياضة.
وأما عاطفته الجياشة فلقد أفاضت من روحه على أسرته جميعا ، وتراه لهذا الوفاء لا يتزوج قبل محنته ليرعى الأسرة التي أصبح راعيها بعد أبيه ، يقول الأستاذ محمد قطب عن أخيه سيد: (هو أبي وأخي وأستاذي وصديقي).
كان سنة (1953م) في ضيافة المؤتمر الإسلامي في القدس ، وقد كان الإخوان آنذاك يشرفون عليه ، يقول فضيلة المراقب العام للإخوان في الأردن -الأستاذ محمد خليفةـ: كان الأستاذ سيد يطلب مني أن أطلب القاهرة -هذا من عمان- فأقول له: هل طرأت لك حاجة? فيقول: لا ، وإنما هو الشوق لسماع صوت الوالد المرشد العام الهضيبي ولو من خلال الهاتف.
وكثيرا ما كان يردد كلمة الوالد المرشد في التحقيق وفي المحكمة ، ولم يقتصر وفاء الأستاذ سيد على صلته بالبشر بل تعداه إلى علاقته بكل ما حوله حتى للحيوانات ، فلقد أ ل ف نزلاء ليمان طرة قطا أعور تتقزز الأبدان لرؤيته ، كان يأوي بالقرب من الأستاذ سيد قطب يخصص له قسما من طعامه وكان يقول: (ليس من الوفاء أن نجافيه ونضيعه في هرمه بعد طول صحبته لنا) وهو بوفائه يعيد إلى ذاكرتنا سيرة الرعيل الأول كأبي هريرة ويفتح أمام ناظرينا صورة زيد بن الدثنة وهو يقول: (والله لا أحب أن أكون سالما في أهلي ويصاب محمد صلى الله عليه وسلم شوكة في قدمه) وذلك وهو يرد على أبي سفيان عندما سأله: أتحب أن محمدا مكانك نعلقه على خشبة الصلب والإعدام ، فقال أبو سفيان: "ما رأيت مثل حب أصحاب محمد محمدا ).
أقول: هذه النماذج التي أقفرت الأرض منها إلا القليل القليل والتي عقمت الدنيا أن تلد أمثالها ، عاد جنود البنا يجددون سيرة هذا النفر الكريم ، هؤلاء أحيوا الأمل في قلوب مئات الملايين وأثبتوا للدنيا أن الإسلام لا زال قادرا على صناعة الرجال.
يقول الأستاذ سيد قطب لشقيقته حميدة: (إن رأيت الوالد المرشد -وهذا قبل إعدامه بيوم- فبلغيه عني السلام وقولي له: لقد تحمل سيد أقصى ما يتحمله البشر حتى لا تمس بأدنى سوء.
سيرة سيد قطب الحركية:
دخل الأستاذ سيد دعوة الإخوان المسلمين سنة (1591م) وكان يعبر عن هذا بأعمق تعبير قائلا : ولدت سنة (1591م) ، وقد جاء سيد على قدر ، ولكل أجل كتاب فلم يحفل سيد بالدعوة في بداية الأمر ولم يكن يعني نفسه للقاء بقائدها البنا الذي ضم الأفذاذ من أبناء مصر تحت جناحيه وبين صفوفه ، فكانت دعوته صفوة أبناء مصر.
وقد ابتدأ سيد قطب يتجه نحو الكتابة عن الإسلام العام ، ولم يكن سيد بعد قد أدرك ب عد أعماق هذا الدين ، ولم يسبر أغواره بمسبار ، وكتب كتاب العدالة الاجتماعية مستعرضا نظام الحكم والمال ، وتركه مع إهداء جميل: (إلى الذين كنت المحهم بعين الخيال قادمين فرأيتهم بواقع الحياة قائمين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في مستقبل قريب جد قريب) ، ثم عهد إلى أخيه محمد في مصر لطباعته ، وطبعه الأستاذ محمد مع هذا الإهداء على حين كانت الحكومة قد نكلت بالإخوان وأودعتهم المعتقلات تمهيد ا لاغتيال الإمام الشهيد البنا ، وظنت الحكومة أن سيد قطب هو أحد أعضاء الإخوان وأن الكتاب مهدي إلى شباب الإخوان ، فصادرت الحكومة الكتاب ولم تسمح بنشره إلا برفع الإهداء ، فرفع الإهداء.
ويحدث الأستاذ سيد عن نفسه وهو في طريقه إلى أمريكا مبعوثا من وزارة المعارف المصرية التي يستلم وزارتها طه حسين -أستاذه- ، فأرسل الأستاذ سيد للإطلاع على المناهج الأمريكية ، يقول الأستاذ سيد: (كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك(1) 1- في ظلال القرآن عند تفسير آية (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) (يونس: 73) ، أنظر طبعة الشروق (11/6871). فهو يعتبر نفسه آنذاك منتسبا إلى الإسلام).
ويشاء الله عز وجل أن يهديه سواء السبيل وأن يريه آياته ليجعله جنديا مخلصا في صف الدعوة الإسلامية ، وتحدث معه حادثتان تضطرانه للدخول تحت جناح الدعوة.
أما الحادثة الأولى: فقد حصلت في (31) شباط (9491م) يقول فيها أنه كان مستلقيا فوق سريره في إحدى مستشفيات أمريكا ، فيرى معالم الزينة وأنوار الكهرباء الملونة وألوان الموسيقى الغربية والرقصات ، ما هذا العيد الذي أنتم فيه? فقالوا: اليوم قتل عدو النصرانية في الشرق ، اليوم قتل حسن البنا ، وقد كانت هذه الحادثة كفيلة أن تهزه من أعماقه ، حسن البنا!! يحتفل بمقتله في داخل أمريكا ، إذن لا بد أن يكون الرجل مخلصا وأن تكون دعوته خطيرة حقا ، ترجف لسماعها أوصال الغرب هلعا واضطرابا .
وأما الحادثة الثانية: فقد حصلت في بيت مدير المخابرات البريطاني في أمريكا ، إذ كانت السفارات الغربية تتسابق في رمي شباكها لاصطياد الطلاب الشرقيين وإيقاعهم بحبائلها ليكرسوا في محافلها المختلفة ، ويقسموا العهد على خدمتها وإنذار الحياة خالصة لخدمتها ، وأي صيد أثمن من الكاتب المعروف سيد? فدعاه مدير المخابرات البريطاني إلى بيته ، يقول الأستاذ سيد: (واستدعى انتباهي أمران: الأول: إن هذا البريطاني يسمى أبناءه بأسماء المسلمين ، محمد وعلي وأحمد... ، والثاني وجدت لديه كتاب العدالة الاجتماعية ، وهو يعمل في ترجمته ، وهي النسخة الثانية في أمريكا إذ الأولى لدى وصلتني من أخي محمد قطب).
وبدأ الحديث عن أحوال الشرق وما ينتظره من مستقبل وأحداث ، ويعرج على مصر ليستفيض في الحديث عنها وتأخذ جماعة الإخوان المسلمين القسط الوافر من الحديث ، ويعرض علي تقارير مفصلة عن نشاط الجماعة وعن تحركات البنا وخطبه منذ أن كانت الجماعة ستة في الإسماعيلية حتى سنة (9491م) ، تفصيلات تؤكد أنهم قد سخروا أجهزة وأموال تتبع نشاط الإخوان وحركاتهم وسكناتهم ورصدوا لذلك أموالا ورجالا خوفا من هذا الغول البشع -الإسلام- وعقب البريطاني قائلا : (إذا قدر ونجحت حركة الإخوان في استلام حكم مصر فلن تتقدم مصر أبدا ، وسيحولون بعقليتهم المتخلفة بين الحضارة الغربية ، وستقف عقلياتهم المتحجرة دون تطور الشعب والأرض ، ثم قال: ونحن نأمل من الشباب المتعلمين أمثالك ألا يمكنوا هؤلاء من الوصول إلى سدة الحكم).
يقول سيد: قلت في نفسي (الآن حصحص الحق) ، وأيقنت أن هذه الجماعة على الحق المبين ، ولم يبق لي عذر عند الله إن لم أتبعها ، فهذه أمريكا ترقص على جمجمة البنا وهذه بريطانيا تسخر أجهزتها وأقلام مخابراتها -حتى داخل أمريكا- لمحاربة الإخوان.
يقول سيد: فصممت في قرارة نفسي أن أدخل الإخوان وأنا لم أخرج بعد من بيت مدير المخابرات البريطاني.
وكانت يد الله تعد لتهيئة الأجواء حتى يدخل سيد قطب دعوة الإخوان ، فهناك في مصر وزع كتاب العدالة الاجتماعية والإخوان مودعون لدى معتقلات الطور وغيرها تحاربهم زبانية فاروق ، وإهداء الكتاب يوحي أنه مهدى إلى الإخوان ، فظنه الإخوان منهم وأن الإهداء موجه إليهم ، فأقبلوا على العدالة يتداولونها ويقرؤونها.
وهنا في أمريكا الحادثة تلو الحادثة تقنع سيدا بصدق دعوة الله.ويترامى إلى مسامع الإخوان تاريخ مقدم سيد إلى مصر ، فتعد الدعوة كوكبة من شباب جماعة القاهرة لاستقباله في ميناء الإسكندرية مثل عبد العزيز سيسي رحمه الله.
فيعجب الأستاذ سيد بتربية الإخوان وأدبهم ألجم وخلقهم الرفيع ، وبمجرد أن وطأت قدماه أرض مصر اتصل بالأستاذ الهضيبي المرشد وعرض عليه أن يقبله جنديا في صف دعوة الإسلام ، فيرحب به الأستاذ الهضيبي ، ويبدأ الأستاذ سيد منذ تلك اللحظة جهاده المنظم المركز ، وقد كان صادقا منذ اللحظة الأولى ، وتعبيرا عن جده في الأمر قدم استقالته إلى وزارة المعارف وأعلن مفاصلته لطه حسين.
وقد سلمه الأستاذ الهضيبي بعد فترة رئاسة تحرير جريدة الإخوان المسلمون ، وكتب بها مقالات صدرت فيما بعد في كتاب أسماه -دراسات إسلامية- ثم قامت الثورة سنة (2591م) ، وكان للإخوان اليد الطولي في إنجاح الصورة وتهدئة الأوضاع ، إن الذي أجبر الملك فاروق على التوقيع على وثيقة التنازل هو الضابط عبد المنعم عبد الرؤوف أحد أفراد الدعوة المخلصين في قصر المنتزه في الإسكندرية ، ووزع الإخوان عشرة آلاف مسلح في القاهرة وحدها لحماية الثورة ، ولقد كتب فاروق في مذكراته: (إن الإخوان المسلمين هم الذين قلبوا عرشي) (وما كان ضباط الثورة إلا العوبة بأيديهم ، ولقد أراد الإخوان المسلمون ضربي في عرض البحر لولا أني أمرت ربان السفينة تغير اتجاهها)(1). 1- أنظر فاروق بين القمة والحضيض.
أقول بعد الثورة طلب مجلس الثورة من الأستاذ سيد أن يكون مستشارهم للشؤون الداخلية فقبل ، ولكن لم يستطع العمل معهم اكثر من ثلاثة أشهر ، وثلاثة أشهر أخرى على مضض وبفتور ثم تركهم لأن طبيعته لا تقبل الالتواء والتثني.
سجنه الطويل:
لقد بدأت سلسلة المحن تتوالى على الدعوة وعلى كبار رجالاتها ، والحق أن سيدا من بين النفر القليل الذين أعطوا الدعوة أوقاتهم وحياته ودماءهم وأموالهم ، ولم يروا من إقبال الدنيا على الدعوة شيئا ، فقد أقبل عليها ودنياها في إدبار ، ورحم الله خباب بن الارت إذ يقول: (هاجرنا مع رسول الله ص في سبيل الله نبتغي وجه الله ، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى ، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا منهم مصعب بن عمير ، قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفن فيه)(1). 1- رجال حول الرسول ص(74).
وفي سنة (4591م) وبعد تمثيل فصول مسرحية الرصاصات على الطاغوت عبد الناصر في منشية البكري في الإسكندرية ، بدأت اعتقالات الإخوان وغيبت السجون المظلمة وراء جدرانها آلاف الشباب ، ولم يكن سيد لينجو إذ كان رئيسا لقسم نشر الدعوة آنذاك ، وكان من المفروض أن يكون سابع السبعة الذين علقوا على الأعواد شنقا ( وهم الشهداء:عبد القادر عودة ، محمد فرغلي ، يوسف طلعت ، إبراهيم الطيب ، هنداوي دوير ، محمود عبد اللطيف).
إلا أن إرادة الله أخرت شهادته ليكتب الظلال والمعالم ، وخصائص التصور الإسلامي ، فلقد أصيب سيد قطب من جراء التعذيب الشديد بنزيف في الرئة مما اضطرهم إلى نقله إلى المستشفى ونفذ الإعدام وهو في المستشفى ، وثارت ثائرة الشعوب المسلمة وعبرت عن سخطها بتظاهرات احتشدت أمام السفارات في الدول العربية والإسلامية ، وأحرقت بعض الأماكن وانهال سيل البرقيات الساخطة من المسلمين في كل مكان ، تكيل اللعنات وتنذر بالثبور والويل للقتلة ومصاصي الدماء.
وصدر وعد من القصر الجمهوري ألا يحدث إعدام فيما بعد ، وجاءت محاكمة سيد قطب في الحلقة الثانية ، وكانت المحاكمة مفتوحة ويرأس محكمة الشعب فيها جمال سالم وحوله عضوان حسين الشافعي وأنور السادات ، ولقد أبدى سيد قطب جرأة نادرة أمام ما يسمون بالقضاة ، فلقد خلع قميصه أمام المحكمة وقال بسخرية: انظروا يا قضاة العدالة!! ثم قال نحن نريد أن نسأل ، آينا أحق بالمحاكمة والسجن نحن أم انتم? إن لدينا وثائق أنكم عملاء للمخابرات الأمريكية ، وبدأ يسرد الوقائع والوثائق التي تصمهم بالخزي وتسمهم بالصلات المشبوهة بكافري -السفير الأمريكي آنذاك- مما اضطر جمال سالم أن يرفع الجلسة ويغلق المحاكمة.
وصدر الحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة ، ، وبعد فترة ولأسباب صحية خ فف الحكم إلى خمسة عشر عاما .
وأودع سيد قطب ليمان ط ر ه (السجن الذي يضم المئات من شباب الإخوان) ، ولقد شهد بأم عينيه مذبحة الإخوان في ليمان طره عندما فتحت الحكومة الرشاشات على الإخوان حيث قتل من عنبر واحد ، واحد وعشرون من شباب الإخوان والتصقت لحومهم بالحائط ، ومن شاء الإستزادة فليقرأ كتاب (أقسمت أن أروي لروكس معكرون).
كان سيد قطب مصابا بالتهاب في الشعب الهوائية ، فوضع في مصحة السجن (مستشفى صغير للسجن مع المصابين بالأمراض الصدرية كالس ل من المجرمين المسجونيين ، واستأذن من إدارة السجن أن يضع حواجز من القماش بينه وبين المرضى فأذن له ، فوضع حواجز من القماش المقوى فأصبح كأنه في غرفة مستقلة ، وألحق به داخل الحواجز القماشية محمد يوسف هواش ، وكانت هذه جريمة لهواش استحق عليها الإعدام سنة (6691م).
وبقي الأستاذ سيد صابرا محتسبا في سجنه يربي إخوانه من حوله بالصدق ويفيض عليهم من روحه المشرقة ، ويضمهم في حنايا قلبه الكبير ، وكان يرد على الذين يحاولونه المهادنة والإستسلام: (إن في صبرنا صبر للكثيرين) وهي نفس كلمة الإمام أحمد بن حنبل.
وساءت حالته الصحية في السجن وأصيب بالذبحة الصدرية ، وأصبح جسده الناحل يحمل في طياته قائمة من الأمراض ، وهو م صر على البقاء في السجن وكانت الذبحة تصيبه مرتين في الأسبوع (الذبحة تشبه الجلطة).
وقدم الأطباء المشرفون على صحته تقارير لعبد الناصر ونصحوه قائلين: إن كان يهمك ألا يموت هذا الرجل في السجن فأخرجه لأنه معرض للموت في كل لحظة ، وماطل عبد الناصر ، ولقد تدخل المرحوم أحمد أوبلو -رئيس وزراء نيجيريا- الشمالية الذي أسلم على يديه ستمائة ألف مسلم- لإخراجه من السجن أثناء مروره بالقاهرة قبل قتله بفترة وجيزة فكذبوا على أحمد أوبلو متظاهرين بإخراجه فنقلوه إلى مستشفى القطر العيني(جامعة القاهرة) ، وكانت حالته الصحية تستدعي هذا النقل ، لأن مصحة السجن لم تعد بعلاجاتها وأدواتها البسيطة لم تعد تكفي لعلاج أمراضه.
ومكث في القصر العيني ستة أشهر وأعيد إلى مصحة ليمان طرة ، وفي نيسان سنة (4691م) أقيمت الإحتفالات بمناسبة الإنتهاء من المرحلة الأولى للسد العالي ، واستضافت مصر خريتشوف لمشاهدة الإحتفالات ، وأخرج الشيوعيون من السجون تحية لخريتشوف ، وكان عبد السلام عارف من بين الذين د عوا للمشاركة في الإحتفال ، وتلقى عبد السلام عارف برقية من مفتي العراق الشيخ أمجد الزهاوي يقول فيها: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ، فاشفع بسيد) فتوسط عبد السلام لإخراجه فأخرج الأستاذ سيد من السجن في سنة (4691م) ، ولقد عرض عليه عبد السلام أن يصحبه إلى العراق ويكون مستشاره ، ولكن الأستاذ سيد استماحه عذرا ، متعللا بصحته التي تشرف على الرحيل وتؤذن بالوداع ، ولكن السبب الحقيقي وراء اعتذاره هو الذي وض حه قائلا :(إننا بإسنادنا ولو بالآراء لوضع جاهلي ، فإننا نحكم بالإعدام على كل كتاباتنا ضد الطواغيت ، وتصبح كملتنا حبرا على أوراق).
والحقيقة أن عبد الناصر ما وافق على إخراجه إلا بعد تيق نه أن سيد قطب قد است هلك وأضحى حطام إنسان ليس لديه طاقة على حركة أو تجميع.
ولكن الروح هي التي تعمل ، فلقد كان الأستاذ سيد قد أعد مسودات المعالم وبدأ بمراجعتها ، ثم دفع بها إلى المطبعة ، وخرج المعالم لتنفذ الطبعة الأولى التي أصدرتها مكتبه وهبة في وقت جد قصير ، مما أدهش المخابرات المصرية ، وتحرك الشيوعيون الذين قرأوا كلمات المعالم كلمة كلمة ، وأيقنوا أن هذا سيعصف بتنظيمهم الذي تقوى في فترة غياب الشباب المسلم في غياهب السجون ، واجج الشيوعيون نار الحقد والبغضاء التي ما هدأ أوارها لحظة في قلب عبد الناصر.
جاء أحد الناس إلى الأستاذ محمد قطب وأخبره بأن الشيوعيين جاد ون في محاولة قتلك وقتل أخيك سيد قطب.
ويرى الأستاذ سيد في منامه أفعى حمراء تلتف حول عنقه فحدث بها جلساءه فقالوا أضغاث أحلام ، فقال: ولكني أظنها المشنقة التي ي مسك بها الشيوعيون.
وحاولت الحكومة أولا أن تقضي على الظاهرين من الدعاة باغتيالات فردية ، وابتدأت المحاولة بالحاجة المجاهدة (زينب الغزالي) إذ داهمت سيارة كبيرة للمخابرات أو بإيعاز منها سيارتها وكسرت رجلها ، ومكثت على إثرها عاما كاملا في المستشفى ، وانتشر الخبر بأن المخابرات جاده في قتل سيد قطب ، وزينب الغزالي ، ومحمد قطب ، ومحمد هواش فنكلت المخابرات عن خطتها ، وأقبل صيف (5691م) الذي يحمل بين جوانحه ما تخبؤه الأقدار للدعوة الإسلامية ، من اعتقال وتشريد وإعدام بتنفيذ المخططات التي ترسم بروتوكولات ها في الكرملين والقصر الأبيض لتنفذ من خلال المخالب في المشرق.
واعتقل سيد قطب في (62/آب/5691م) وأودع السجن الحربي بعد أن انتقل من سجن إلى سجن وانتهى به المقام في الحربي ، وفي أوائل اعتقاله ألقي في زنزانة مظلمة بين أربعة كلاب بوليسية وظيفتها إرهاب السجناء بالإضافة إلى انتهاش لحومهم ، وتقطيعها فور تلقيها أية إشارة من الكلاب البشرية.
وأسندت تهمة الخيانة العظمى له بترأس تنظيم إرهابي يدعو إلى قلب نظام الحكم بالقوة ، وهذه حقيقة وكلمة حق أريد بها باطل ، فصاحب الحق يدعو لانتصار دينه وتطبيق الإسلام في كل مجالات الحياة ، ولا يهادن ولا يداهن ولايتنازل عن هذا الحق الذي يطالب به.
نعم لقد عهد إليه فضيلة المرشد بقيادة تنظيم سنة (2691م) وأطاع الأمر إذ أنه يعرف معنى الطاعة في الإسلام ، وأن طاعة الأمير فريضة في الأعناق ، ومعصيته إثم يستحق صاحبه العقاب ، فقبل وأشرف على تربية أفراده بكتاباته وهو في داخل السجن ، ثم أشرف بنفسه ووهب التنظيم حياته ، وروحه ، ووقته ، وفكره ، هذا التنظيم الذي يشير إليه في مقدمة المعالم بأنه طليعة البعث الإسلامي ، وهو يعتقد تماما أن صلاح البشرية وسعادتها وراحتها متوقفة على نجاح الحركة الإسلامية كما يقول في مقدمة الظلال ص(51) -دار الشروقـ: (وانتهيت من فترة الحياة في ظلال القرآن إلى يقين جازم حازم... أنه لا صلاح لهذه الأرض ، ولا راحة لهذه البشرية ، ولا طمأنينة لهذا الإنسان ولا رفعة ، ولا بركة ، ولا طهارة ، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة إلا بالرجوع إلى الله ، والرجوع إلى الله -كما يتجلى في ظلال القرآن- له صورة واحدة ، وطريق واحد... واحد لا سواه... إنه العودة بالحياة كلها إلى هذا الكتاب).
لقد كان وهو يستجيب لأمر المرشد بالإشراف على التنظيم ممن قال الله فيهم:
(الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح ، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم)
(آل عمران: 271)
وبقي التحقيق والتعذيب مستمرا عاما كاملا من آب سنة (5691م) حتى آب سنة (6691م) ، وإن كان القضاة سلفا قد ارتشفوا دمه ، وقد كان الجلادون حريصين ألا يموت سيد قطب ليبقى معذبا فكانوا يربطونه بالكرسي ويقولون: (نحن نعلم أنك إذا عذبت ستموت ، ونحن لا نريد أن تموت فتستريح).
ولقد بدأ الأستاذ سيد عملاقا إب ان التحقيق والمحاكمات ، فكثيرا ما كان يسخر من الضباط الخائنين الذين انقلبوا بين عشية وضحاها قضاة يحكمون في الدماء والأعراض.. كالدجوي الذي ترأس المحكمة ، وقد كان ممن وقع في الأسر سنة (6591م) ، وقد كان يهاجم مصر من خلال اذاعة إسرائيل ، وقد كان سيد بأسلوبه اللاذع الساخر يقابل الذئاب البشرية التي تمسك بخناق المسلمين ، وتتربع على عرش مصر ، وتحكم بالحديد والنار ، وتجتث بما في أيديها من وسائل بقايا الخلق والقيم من المجتمع ، وتحارب بأقلامها وأجهزتها كل فضيلة آدمية ، أو مبدأ رباني ، أو أرضي ،
واستطاع سيد بصبره وترفعه وبصيرته أن يبين سخافة هؤلاء الأمساخ والتف حوله الفئة المؤمنة التي استطاعت بطاعتها واحترامها له أن تقتل الجلادين غما وحقدا وغيظا ، قال أحد المحققين للحاجة زينب الغزالي -حفظها الله-: (إن سيد قطب كذب عليك وقال عنك..) فقالت: حاشا لله أن يكذب سيد.
وقالوا لشاب مؤمن: هل اتصلت بسيد قطب? فأنكر وأصر على إنكاره رغم التعذيب ، فقالوا له: ولكن سيد قطب يقول: انك قد اتصلت به ، فقال الشاب: إن كان قالها فقد صدق!! وهي نفس الكلمة التي قالها الصديق أبو بكر بصدد الإسراء والمعراج.
ولقد اهتز كيان الطاغوت عند رؤية هذه الفئات ، وصعقوا إذ أنهم ظنوا أن قد قضى على الإسلام والجماعة المسلمة ، وإذا بهم يفاجئون بنماذج أنقى ، وبفئات أصلب عود ا وأشد في دين الله مما رأوا من ذي قبل ، وهم في هذه المرة من الشباب المتعلم المثقف بل معظمهم من الكليات العلمية ، والعملية كالطب والهندسة والعلوم والذرة ولهول الصدمة كانت ضرباتهم جنونية ، ولقد استشهد تحت التعذيب مائتان وثمانون شابا من هذه النماذج وكانت النازلة شديدة الوقع على الطاغوت ، وكاد ي ج ن حقا ، وبدأ يصرخ في وجوه المخابرات صرخات محمومه جنونية (إزاي يسرقوا مني جيل الثورة ، قباني (بائع قطن وهو الشهيد عبد الفتاح إسماعيل) ، وامرأة يعني (زينب الغزالي) ، وأضطرب كيانه وساءت صحته ، وخارت قواه العقلية والعصبية مما اضطره أن يذهب إلى روسيا حيث الحم امات الساخنة والجلسات الكهربائىة ، وبعد أن أمسك بأنفاسه في روسيا أعلن من فوق قبر لينين: (لقد اكتشفنا مؤامرة للإخوان المسلمين ، ولئن عفونا المرة الأولى ، فلن نعفو المرة الثانية) وأعطيت الأوامرالشديدة فكان التعذيب الرهيب الذي استمر قرابة عام أثناء التحقيق ، وهنالك علاوات الإجرام ، ويحضرني قصة كتبها أحمد رائف في البوابة السوداء يقول فيها: (مات أحدنا لشدة التعذيب في الزنزانة وعندما فتح السجان باب الزنزانة صباحا قلنا: يا أفندم مات واحد فقال السجان: (يا أولاد الكلب بسى واحد مات ، حانودي وشنا فين من المسئول).
تقول الحاجة زينب الغزالي: لقد ضربوني ستة آلاف وخمسمائة سوط وكانت غرف التعذيب ثلاثين غرفة تختلف أدوات التعذيب في كل واحدة عن الأخرى ، وكان لا بد أن يصدر حكم الإعدام على الأستاذ سيد ، وعلى تلميذه محمد يوسف هواش وعلى الشيخ عبدالفتاح إسماعيل ، قال سيد عند صدور الحكم: (الحمد لله لقد جاهدت مدة خمسة عشر عاما حتى نلت هذه الشهادة) ، وقال الشيخ عبد الفتاح: (فزت ورب الكعبة).
ولقد ملك كل واحد منهما بصبره العجيب القلوب ، حتى قلوب جلاديه ، فلقد كان ضباط الحربي يقولون للشيخ عبد الفتاح: والله ان هذه البلد لا تستحقك ، فأنت درة ضائعة في مصر.
جاءت الأرحام من آل قطب لزيارة سيد بعد صدور حكم الإعدام ، فطوقهم بذراعيه وقال: (لقد دعوت الله عزوجل أن ينفذ الحكم لتكون الشهادة ، دعوت الله أن يجعل هذه العائلة كلها شهداء ، هل قبلتم? قالوا: قبلنا ، ونفذ حكم الإعدام في سحر ليلة الإثنين (92) آب (6691م) ، وفاضت هذه الروح الكبيرة إلى بارئها بعد أن أدت دورها ، وقد تبدو هذه النتيجة في حساب الأرض أسيفة أليمة ، وقد يعد ها البشر هزيمة مريرة ، لكن كما يقول هو في فصل (هذا هو الطريق): وهو يتحدث عن أصحاب الأخدود ص(532) من معالم في الطريق: (إن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة ، وانتصار العقيدة على الألم ، وانتصار الإيمان على الفتنة... وفي هذا الحادث انتصرت الفئة المؤمنة انتصارا يشرف الجنس البشري كله.. إن الناس جميعا يموتون ، وتختلف الأسباب ، ولكن الناس جميعا لا ينتصرون هذا الإنتصار ولا يرتفعون هذا الإرتفاع ، ولا يتحررون هذه التحرر ، ولا ينطلقون هذا الإنطلاق إلى هذه الآفاق ، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده ، لتشارك الناس في الموت ، وتنفرد دون الناس في المجد في الملأ الأعلى ، وفي دنيا الناس أيضا ، إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال ، لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم ، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم ، وكم كانت البشرية كلها تخسر? كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير? معنى زهادة الحياة بلا عقيدة ، وبشاعتها بلا حرية ، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد).
ولقد صدق الله فصدقه ، إذ كان يتمنى الشهادة صادقا -والله أعلم- فرزقه الله إياها: تقرأ له مقالا كتبه سنة (2591م) في كتابه دراسات إسلامية ص (831) ، فكأنك تلمح من خلاله أنه يخط بالهام من الله نهايته إذ يقول: (إنه ليست كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها ، وتجمعها ، وتدفعها ، إنها الكلمات التي تقطر دماء لأنها تقتات قلب إنسان حي. كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب انسان ، أما الكلمات التي ولدت في الأفواه ، وقذفت بها الألسنة ، ولم تتصل بذلك النبع الإلهي الحي ، فقد ولدت ميته ، ولم تدفع بالبشرية شبرا واحدا إلى الإمام ، إن أحدا لن يتبناها لأنها ولدت ميته ، والناس لا يتبنون الأموات ، ويكتب عند آية:
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومن أوفى بعهده من الله ، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)
(التوبة: 111)
(إن الدخول في الإسلام صفقة بين متابيعين.. الله سبحانه هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع ، فهي بيعة مع الله لايبقى بعدها للمؤمن من شيء في نفسه ، ولا في ماله يحتجزه دون الله -سبحانه- ودون الجهاد في سبيله ، لتكون كلمة الله هي العليا ، وليكون الدين كله لله...
إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن... كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ، ومنذ كان دين الله.. إنها السنة الجارية التي لا تستقيم الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها ، بعونك اللهم فإن العقد رهيب.. وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم (مسلمين) في مشارق الأرض ومغاربها ، قاعدون ، لا يجاهدون لتقرير الوهية الله في الأرض ، وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد ، ولا يقتلون ولا ي قتلون ، ولا يجاهدون جهادا ما دون القتل والقتال)(1). 1- في ظلال القرآن (11/6171) -ط/الشروقـ.
بقلم: الدكتور عبد الله عزام
الطبعة: الأولى
نشر وتوزيع
مركز شهيد عزام الإعلامي
يشاور-باكستان
بسم الله الرحمن الرحيم
رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري
إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم.. أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم.. أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق ، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق ، (إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة ، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء)(1). 1- دراسات إسلامية (931).
(إن الدخول في الإسلام صفقة بين متبايعين.. .الله سبحانه هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع ، فهي بيعة مع الله ، لا يبقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ، ولا في ماله.. لتكون كلمة الله هي العليا ، وليكون الدين كله لله)(1). 1- (في ظلال القرآن (11/6171) ط/الشروق.
حياة سيد قطب تنقسم إلى أقسام
1- حياته الأدبية.
2- اتجاهه الإسلامي العام.
3- اتجاهه الإسلامي المجدد.
أولا : حياته الأدبية.
تنقسم إلى عدة مراحل:
المرحلة الأولى: بيئته في البيت والقرية قبل دخوله دار العلوم.
المرحلة الثانية: الدراسة في كلية دار العلوم.
المرحلة الثالثة: عمله كمدرس واهتمامه بقول الشعر ، والصبغة العامة لشعره وتأملاته ، وصلته بعبد القادر حمزة ثم عباس العقاد ، ومقالاته وقصائده في هذه المرحلة في المجلات المعروفة مثل دار العلوم والرسالة والجهاد والبلاغ.
المرحلة الرابعة: اهتمامه بالنقد الأدبي ونظرته في الصور والظلال والأحاسيس كتلميذ في مدرسة العقاد الأدبية ، وتتوجت هذه المرحلة بمعركته الأدبية في الرسالة مع أنصار الرافعي وتأييده للعقاد.
المرحلة الخامسة: مرحلة خمود أدبه لم يظهر له فيها إنتاج إلا القليل وهي تمتد طيلة الحرب العالمية الثانية.
المرحلة السادسة: ظهوره كناقد أدبي مشهور من خلال مقالاته في الرسالة -بعضها ظهر في كراريس كتب وشخصيات- ومحاولة تصنيف المذاهب الفنية الأدبية كمدارس ووضع سمات لكل مدرسة مثل: مدرسة الرافعي ومدرسة المنفلوطي ومدرسة العقاد ، ومدرسة الزيات ، ومدرسة طه حسين ومدرسة توفيق الحكيم.
المرحلة السابعة: اتجاهه الأدبي نحو القرآن واهتمامه بدراسة وإصدار كتابين:(التصوير ، والمشاهد) بالإضافة لاهتمامه بالنقد الأدبي ومقالاته المختلفة.
المرحلة الثامنة: خروجه من مدرسة العقاد الأدبية ونقده لها ، وقد بدأ يكون لنفسه مدرسة أدبية جديدة ، وكان له التلاميذ ، وكتابه (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) نهج لهذه المدرسة.
المرحلة التاسعة: ركود أدبي لمدة عامين في أمريكا لم يظهر له من الإنتاج إلا القليل.
وفي نهاية المرحلة التاسعة وبعد أن عاد من أمريكا اتجه نحو القسم الثاني من حياته وهو اتجاهه الإسلامي العام ، ودخوله جماعة الإخوان المسلمين وهي متداخلة مع القسم الأدبي.
تاريخ تأليف سيد قطب لكتبه
1- أشواك: مايو (7491م).
2- مشاهد القيامة في القرآن: (7491م).
3- طفل من القرية: (6491م).
4- الأطياف الأربعة: (5491م).
5- التصوير الفني في القرآن: (5491م).
6- المدينة المسحورة: (6491م).
7- كتب وشخصيات: (6491م).
8- النقد الأدبي: (8491م).
9- العدالة الاجتماعية: (9491م).
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أصله ونشأته:
ولد -رحمه الله- في قرية من قرى الصعيد اسمها (موشه) سنة (6091م) ، وهي تتبع محافظة أسيوط لأبوين كريمين متوسطي الحال ، يحملان سمت أهل الصعيد المصري من سمرة في البشرة ، وقسمات وجوههم تعكس بعض ما جبلت عليه فطرتهم من غيرة على العرض ، إلى الطيب المتأصل في أعماق نفوسهم ، والكرم الذي لا يفارقهم سواء في سني الجدب أو الخصب والنماء ، هذا فضلا عن العاطفة الفياضة الجياشة التي تربطهم بشدة بهذا الدين القويم ، ولقد ذكر الأستاذ سيد في مقدمة التصوير الفني في القرآن أن روح أمه المتدينة قد طبعته بطابعها ، وفي مقدمة مشاهد القيامة أنه قد تربى في مسارب نفسه الخوف من اليوم الآخر من خلال الكلمات والتصرفات التي كانت تنطلق من والده من خلال ممارسته أعماله اليومية ، والقيام بضرورياته من طعام وشراب وغيرها ، فتركت شخصية الوالدين بصماتها واضحة على قلبه.
ويقال إن أصل الأستاذ سيد قطب هندي ، وأن حسينا -جده الرابع- قد هاجر من الهند إلى أرض الحرمين حيث البيت العتيق ومثوى المصطفى ص ، ثم هاجر إلى مصر واستقر في هذه القرية المصرية.
نشأته:
درج في مراحل الطفولة الأولى في قريته في أحضان والديه اللذين أرضعاه حب هذا الدين من خلال التدين الفطري الذي طبعت عليه هذه الأنفس ، ثم انتقل إلى القاهرة حيث يسكن خاله ، وواصل تعليمه ودخل دار العلوم ، وبرزت مواهبه الأدبية إبان دراسته ، وكان يكتب في عدة مجلات أدبية وسياسية منها (الرسالة) ، (اللواء الاشتراكية) ، ولقد كتب عنه أستاذه مهدي علام في تقديمه لرسالة (مهمة الشاعر في الحياة) التي ألقاها سيد قطب كمحاضرة في دار العلوم يقول: (لو لم يكن لي تلميذ سواه لكفاني ذلك سرورا وقناعة ، ويعجبني فيه جرأته الحازمة التي لم تسفه فتصبح تهورا ، ولم تذل فتغدو جبنا ، وتعجبني فيه عصبيته البصيرة ، وإنني أعد سيد قطب مفخرة من مفاخر دار العلوم.
وفي الأربعينات تولى رئاسة تحرير مجلة (الفكر الجديد) لصاحبها محمد حلمي المنياوي ، ولقد بدت في هذه المجلة نزعة سيد قطب العدائية للملك فاروق ، وقد كان مجاهرا في نقده اللاذع حتى دس إليه فاروق من يطلق عليه النار ، فأخطأه الرصاص ، ولقد صدر من المجلة ستة أعداد صودر عددان منها ثم اضطرت الحكومة لإغلاقها بعد ستة أعداد.
ولقد تتلمذ الأستاذ سيد قطب أدبيا على يد العقاد ، وكان يتردد على طه حسين ، وحمل لواء المعارضة للأستاذ الكبير مصطفى صادق الرافعي ، وكان هجومه على الرافعي عنيفا حتى أن الرافعي لم ينج منه بعد موته فلقد نقد الرافعي إثر موته نقدا لاذعا فقام علي الطنطاوي يدافع عن الرافعي فقابله الأستاذ سيد برد مقذع حاد.
ولقد كتب في أوائل الأربعينات كتابيه الشهيرين: التصوير الفني في القرآن ، وقد أهداه إلى أمه ، ومشاهد القيامة في القرآن وأهداه إلى روح أبيه ، وكم كانت دهشة القراء عندما وجدوا أن الكتابين يخلوان من البسملة ، إذ لم يكن سيد قد اتجه الوجهة الإسلامية بعد.
بعض ملامحه وصفاته الشخصية:
1- الصدق.
إن من أبرز الصفات في نفسية سيد قطب الصدق ، وهذه الصفة طبعت كتابته كلها بالوضوح ، مما جعل تعامله مع الساسة يكاد يكون مستحيلا ، ولقد كان هذا الخط بارزا في جاهليته وإسلامه ، ففي عهد فاروق كان الكتاب يعبون من سؤره ويخطبون وده بتذليل رخيص ويتزلفون حتى يستطيعوا الانكباب على أقدامه عل هم ينالوا من الحطام ، أما سيد قطب فلقد كان رغم فقره أبيا صادقا ، ففي زواج فاروق ، وفي أعياد ميلاده ترى المقالات التي تزحم بها الصحف بأقلام الكتاب إلا سيد فإنك تفتقد اسمه بين هذه القطعان.
وتلمح هذا الصدق من خلال عباراته ، فلقد كتب في مجلة مصر الفتاه الاشتراكية تحت عنوان كبير (رعاياك يا مولاي) وأظهر صورا من الترف الفاجر وفي المقابل صور من البؤس والفاقة.
ولقد طلبت الثورة عندما قامت سنة (2591م) من سيد قطب أن يكون لها مستشارا للشؤون الداخلية فلم يستطع العمل معهم سوى ثلاثة أشهر ثم تركهم لأن نفسه لا تقبل الالتواء والتلون.
ولقد عمق الإسلام هذه الصفة في مسارب نفسه ، فأضحى الصدق عنوانا لتعامله وكلامه ينبض بكل كلمة من كلماته وتنم عنها كل عبارة من عباراته ويبدو لك هذا جليا من خلال الطبعة الثانية من الظلال ومن خلال فصول المعالم.
كان يقول لأحد تلامذته واسمه سيد أيضا ، تعال يا سيد نراجع معا فصلا من فصول هذا الكتاب ، وأنا أظن أن أبواب السجن ستفتح له ولنا من جديد وقد تنصب لنا أعواد المشانق... فيرجوه تلامذته ألا يطبع المعالم حفاظا على حياته فيرفض بإباء قائلا : لا بد أن يتم البلاغ.
وقد سأله تلاميذه لماذا كنت صريحا كل الصراحة في المحكمة التي تملك عنقك? فقال: لأن التورية لا تجوز في العقيدة ، ولأنه ليس للقائد أن يأخذ بالرخص ، ويبدو أن هذه الصفة هي الطابع المميز لأل قطب جميعا ، فلقد قالت حميدة شقيقته: كان بإمكاني أن أعفى من سجن السنوات العشر لولا أني أبيت أن أكتم عقيدتي ورفضت إلا أن أصارح الطواغيت بكفرهم.
يقول في فصل (نقلة بعيدة (معالم في الطريق 602): (لن نتدسس إلى الناس بالإسلام تدسسا ولن نربت على شهواتهم ، وتصوراتهم المنحرفة ، سنكون معهم صرحاء غاية الصراحة ، هذه الجاهلية التي فيها خبث ، والله يريد أن يطيبكم).
2- الشجاعة والرجولة.
ولقد كان خلق الرجولة بارزا في تصرفاته سواء في جاهليته أو إسلامه فلم يسف ولم يسقط ولم يهو في مهاوي الرذيلة ، ولم يغرق في مستنقعات الوحل والجنس ، وأنت تقرأ له في حبه في جاهليته قصة (أشواك) فتلمح من خلال الإهداء رجولته ، يقول في الإهداء:(إلى التي خاضت معي في الأشواك ، فدميت ودميت ، وشقيت وشقيت ، ثم سارت في طريق وسرت في طريق جريحين بعد المعركة ، لا نفسها إلى قرار ، ولا نفسي إلى استقرار).
لا تجد فيه نتن الفاحشة ، وإنما تلمح شخصية معتدلة تعبر عن تجربة بشرية بكلمات أدبية ، دون تميع ولا انحراف ولا إسفاف ولا تهافت.
وخلق الرجال وجده الإسلام خامة طيبة في أعماق الأستاذ سيد فنماها ووجهها فأتت بالأعاجيب من فوق القمة التي أرتفع إليها ، يقول في مقدمة الظلال: (وعشت في ظلال القرآن أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض ، وإلى اهتمامات أهلها الهزيلة الصغيرة ، أنظر إلى تعاجب أهل الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال وتصورات الأطفال ، واهتمامات الأطفال ، كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال ، ومحاولات الأطفال ، ولغة الأطفال ، وأعجب ، ما بال هذا الناس ، ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة).
ومن هنا داس دنيا الحكام وآثر العيش وراء قضبان الزنزانة ، وكان يقول:(إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا واحدا يقر به حكم طاغية) ، رغم أن وزارة المعارف تعرض عليه في السجن.
ويقول: (لماذا أسترحم? إن كنت محكوما بحق فأنا أرتضي حكم الحق ، وإن كنت محكوما بباطل ، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل ، بينما حبل المشنقة يلوح أمام ناظريه.
وبعد صدور حكم الإعدام وفي يوم الأحد (82/8/6691م) وقبل تنفيذ حكم الإعدام جاء قرار موقع من الطاغوت الهالك -عبد الناصرـ: (ينفذ حكم الإعدام بكل من: سيد قطب ، محمد يوسف هواش، عبد الفتاح إسماعيل ، ومع الكتاب إشارة إلى محاولة استدراج سيد قطب إلى اعتذار يخفف به حكم الإعدام عنه ، فجاء حمزة البسيوني مدير السجن الحربي إلى حميدة قطب وأطلعها على القرار ، ثم أردف قائلا : لدينا فرصة واحدة لإنقاذ الأستاذ ، وهي اعتذاره ، وأنا أتعهد بإخراجه بعد ستة أشهر ، قالت حميدة: فجئت أخي فذكرت له ذلك ، فقال: لن أعتذر عن العمل مع الله.
وفي شهر آب سنة (5691م) وهو نفس الشهر الذي اعتقل فيه أرسل إليه المباحث واحدا فتسور الدار ودخل ليفتش فأمسكه وأنبه وأدبه ، وقال: (إن للبيوت حرمات ألا تعرف أدب الدخول? ثم كتب كتابا وأرسله إلى مدير المباحث وقال: (أرسل إلي بشرا ولا ترسل كلابا ) ثم ذهب إلى قسم المباحث ، وقال: (جئتكم حتى تعتقلوني).
3- كرمه وسخاؤه.
وهذه صفة تقترن مع الشجاعة غالبا ، فحيثما وجدت صفاء النفس وسخاءها وجدت الجرأة والشجاعة ، فالنفس الأبية التي تجود بروحها يرخص عليها المال ومتاع الحياة ، ولقد كان سيد ينفق كل ما يأتيه ولا يدخر شيئا ، وكان لكثير من نزلاء ليمان طرة في أمواله شيء معلوم ، حتى من المجرمين ، ومن السجانيين ، ولقد كان يشفق على حالة السجانيين الأسرية ، وضيق ذات يدهم فيرثي لحالهم ويخفف من كربهم وضنكهم وبأسائهم.
ولقد ملك مضائه وسخائه هذا قلوب عارفيه ، وأصبح بكرمه الآسر هو المدير الفعلي لسجن ليمان طره ، حتى كان الحلواني - مدير السجن - يقول: إن المدير الفعلي للسجن هو سيد قطب ، وأقرأ إن شئت رسالته الصغيرة (أفراح الروح): (وكيف كان يفجر ينابيع فطرة الخير في قلوب المجرمين ، وفي هذه الرسالة زاد كبير للعاملين من الدعاة.
ولذا فقد مضى إلى ربه وهو لا يملك مترا واحدا فوق هذه الغبراء (فهو بصدقه وفي العهود ، وبكرمه أسر القلوب ، وبتواضعه ألف بين الجنود ، وبشجاعته وصلابته قاد الجموع).
4- تواضعه.
وهذا سمت الصالحين (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) ، وبالقدر الذي كان يستعلي به على الطغاة كان يتواضع ويتطامن للمؤمنين من تلامذته ، فترى أحدهم يشير عليه أن يحذف فقرة من مسودة التفسير أو يصحح عبارة فيستجيب.
5- حبه ووفاؤه وعاطفته الفياضة.
وأما عاطفته الجياشة فلقد أفاضت من روحه على أسرته جميعا ، وتراه لهذا الوفاء لا يتزوج قبل محنته ليرعى الأسرة التي أصبح راعيها بعد أبيه ، يقول الأستاذ محمد قطب عن أخيه سيد: (هو أبي وأخي وأستاذي وصديقي).
كان سنة (1953م) في ضيافة المؤتمر الإسلامي في القدس ، وقد كان الإخوان آنذاك يشرفون عليه ، يقول فضيلة المراقب العام للإخوان في الأردن -الأستاذ محمد خليفةـ: كان الأستاذ سيد يطلب مني أن أطلب القاهرة -هذا من عمان- فأقول له: هل طرأت لك حاجة? فيقول: لا ، وإنما هو الشوق لسماع صوت الوالد المرشد العام الهضيبي ولو من خلال الهاتف.
وكثيرا ما كان يردد كلمة الوالد المرشد في التحقيق وفي المحكمة ، ولم يقتصر وفاء الأستاذ سيد على صلته بالبشر بل تعداه إلى علاقته بكل ما حوله حتى للحيوانات ، فلقد أ ل ف نزلاء ليمان طرة قطا أعور تتقزز الأبدان لرؤيته ، كان يأوي بالقرب من الأستاذ سيد قطب يخصص له قسما من طعامه وكان يقول: (ليس من الوفاء أن نجافيه ونضيعه في هرمه بعد طول صحبته لنا) وهو بوفائه يعيد إلى ذاكرتنا سيرة الرعيل الأول كأبي هريرة ويفتح أمام ناظرينا صورة زيد بن الدثنة وهو يقول: (والله لا أحب أن أكون سالما في أهلي ويصاب محمد صلى الله عليه وسلم شوكة في قدمه) وذلك وهو يرد على أبي سفيان عندما سأله: أتحب أن محمدا مكانك نعلقه على خشبة الصلب والإعدام ، فقال أبو سفيان: "ما رأيت مثل حب أصحاب محمد محمدا ).
أقول: هذه النماذج التي أقفرت الأرض منها إلا القليل القليل والتي عقمت الدنيا أن تلد أمثالها ، عاد جنود البنا يجددون سيرة هذا النفر الكريم ، هؤلاء أحيوا الأمل في قلوب مئات الملايين وأثبتوا للدنيا أن الإسلام لا زال قادرا على صناعة الرجال.
يقول الأستاذ سيد قطب لشقيقته حميدة: (إن رأيت الوالد المرشد -وهذا قبل إعدامه بيوم- فبلغيه عني السلام وقولي له: لقد تحمل سيد أقصى ما يتحمله البشر حتى لا تمس بأدنى سوء.
سيرة سيد قطب الحركية:
دخل الأستاذ سيد دعوة الإخوان المسلمين سنة (1591م) وكان يعبر عن هذا بأعمق تعبير قائلا : ولدت سنة (1591م) ، وقد جاء سيد على قدر ، ولكل أجل كتاب فلم يحفل سيد بالدعوة في بداية الأمر ولم يكن يعني نفسه للقاء بقائدها البنا الذي ضم الأفذاذ من أبناء مصر تحت جناحيه وبين صفوفه ، فكانت دعوته صفوة أبناء مصر.
وقد ابتدأ سيد قطب يتجه نحو الكتابة عن الإسلام العام ، ولم يكن سيد بعد قد أدرك ب عد أعماق هذا الدين ، ولم يسبر أغواره بمسبار ، وكتب كتاب العدالة الاجتماعية مستعرضا نظام الحكم والمال ، وتركه مع إهداء جميل: (إلى الذين كنت المحهم بعين الخيال قادمين فرأيتهم بواقع الحياة قائمين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في مستقبل قريب جد قريب) ، ثم عهد إلى أخيه محمد في مصر لطباعته ، وطبعه الأستاذ محمد مع هذا الإهداء على حين كانت الحكومة قد نكلت بالإخوان وأودعتهم المعتقلات تمهيد ا لاغتيال الإمام الشهيد البنا ، وظنت الحكومة أن سيد قطب هو أحد أعضاء الإخوان وأن الكتاب مهدي إلى شباب الإخوان ، فصادرت الحكومة الكتاب ولم تسمح بنشره إلا برفع الإهداء ، فرفع الإهداء.
ويحدث الأستاذ سيد عن نفسه وهو في طريقه إلى أمريكا مبعوثا من وزارة المعارف المصرية التي يستلم وزارتها طه حسين -أستاذه- ، فأرسل الأستاذ سيد للإطلاع على المناهج الأمريكية ، يقول الأستاذ سيد: (كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك(1) 1- في ظلال القرآن عند تفسير آية (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) (يونس: 73) ، أنظر طبعة الشروق (11/6871). فهو يعتبر نفسه آنذاك منتسبا إلى الإسلام).
ويشاء الله عز وجل أن يهديه سواء السبيل وأن يريه آياته ليجعله جنديا مخلصا في صف الدعوة الإسلامية ، وتحدث معه حادثتان تضطرانه للدخول تحت جناح الدعوة.
أما الحادثة الأولى: فقد حصلت في (31) شباط (9491م) يقول فيها أنه كان مستلقيا فوق سريره في إحدى مستشفيات أمريكا ، فيرى معالم الزينة وأنوار الكهرباء الملونة وألوان الموسيقى الغربية والرقصات ، ما هذا العيد الذي أنتم فيه? فقالوا: اليوم قتل عدو النصرانية في الشرق ، اليوم قتل حسن البنا ، وقد كانت هذه الحادثة كفيلة أن تهزه من أعماقه ، حسن البنا!! يحتفل بمقتله في داخل أمريكا ، إذن لا بد أن يكون الرجل مخلصا وأن تكون دعوته خطيرة حقا ، ترجف لسماعها أوصال الغرب هلعا واضطرابا .
وأما الحادثة الثانية: فقد حصلت في بيت مدير المخابرات البريطاني في أمريكا ، إذ كانت السفارات الغربية تتسابق في رمي شباكها لاصطياد الطلاب الشرقيين وإيقاعهم بحبائلها ليكرسوا في محافلها المختلفة ، ويقسموا العهد على خدمتها وإنذار الحياة خالصة لخدمتها ، وأي صيد أثمن من الكاتب المعروف سيد? فدعاه مدير المخابرات البريطاني إلى بيته ، يقول الأستاذ سيد: (واستدعى انتباهي أمران: الأول: إن هذا البريطاني يسمى أبناءه بأسماء المسلمين ، محمد وعلي وأحمد... ، والثاني وجدت لديه كتاب العدالة الاجتماعية ، وهو يعمل في ترجمته ، وهي النسخة الثانية في أمريكا إذ الأولى لدى وصلتني من أخي محمد قطب).
وبدأ الحديث عن أحوال الشرق وما ينتظره من مستقبل وأحداث ، ويعرج على مصر ليستفيض في الحديث عنها وتأخذ جماعة الإخوان المسلمين القسط الوافر من الحديث ، ويعرض علي تقارير مفصلة عن نشاط الجماعة وعن تحركات البنا وخطبه منذ أن كانت الجماعة ستة في الإسماعيلية حتى سنة (9491م) ، تفصيلات تؤكد أنهم قد سخروا أجهزة وأموال تتبع نشاط الإخوان وحركاتهم وسكناتهم ورصدوا لذلك أموالا ورجالا خوفا من هذا الغول البشع -الإسلام- وعقب البريطاني قائلا : (إذا قدر ونجحت حركة الإخوان في استلام حكم مصر فلن تتقدم مصر أبدا ، وسيحولون بعقليتهم المتخلفة بين الحضارة الغربية ، وستقف عقلياتهم المتحجرة دون تطور الشعب والأرض ، ثم قال: ونحن نأمل من الشباب المتعلمين أمثالك ألا يمكنوا هؤلاء من الوصول إلى سدة الحكم).
يقول سيد: قلت في نفسي (الآن حصحص الحق) ، وأيقنت أن هذه الجماعة على الحق المبين ، ولم يبق لي عذر عند الله إن لم أتبعها ، فهذه أمريكا ترقص على جمجمة البنا وهذه بريطانيا تسخر أجهزتها وأقلام مخابراتها -حتى داخل أمريكا- لمحاربة الإخوان.
يقول سيد: فصممت في قرارة نفسي أن أدخل الإخوان وأنا لم أخرج بعد من بيت مدير المخابرات البريطاني.
وكانت يد الله تعد لتهيئة الأجواء حتى يدخل سيد قطب دعوة الإخوان ، فهناك في مصر وزع كتاب العدالة الاجتماعية والإخوان مودعون لدى معتقلات الطور وغيرها تحاربهم زبانية فاروق ، وإهداء الكتاب يوحي أنه مهدى إلى الإخوان ، فظنه الإخوان منهم وأن الإهداء موجه إليهم ، فأقبلوا على العدالة يتداولونها ويقرؤونها.
وهنا في أمريكا الحادثة تلو الحادثة تقنع سيدا بصدق دعوة الله.ويترامى إلى مسامع الإخوان تاريخ مقدم سيد إلى مصر ، فتعد الدعوة كوكبة من شباب جماعة القاهرة لاستقباله في ميناء الإسكندرية مثل عبد العزيز سيسي رحمه الله.
فيعجب الأستاذ سيد بتربية الإخوان وأدبهم ألجم وخلقهم الرفيع ، وبمجرد أن وطأت قدماه أرض مصر اتصل بالأستاذ الهضيبي المرشد وعرض عليه أن يقبله جنديا في صف دعوة الإسلام ، فيرحب به الأستاذ الهضيبي ، ويبدأ الأستاذ سيد منذ تلك اللحظة جهاده المنظم المركز ، وقد كان صادقا منذ اللحظة الأولى ، وتعبيرا عن جده في الأمر قدم استقالته إلى وزارة المعارف وأعلن مفاصلته لطه حسين.
وقد سلمه الأستاذ الهضيبي بعد فترة رئاسة تحرير جريدة الإخوان المسلمون ، وكتب بها مقالات صدرت فيما بعد في كتاب أسماه -دراسات إسلامية- ثم قامت الثورة سنة (2591م) ، وكان للإخوان اليد الطولي في إنجاح الصورة وتهدئة الأوضاع ، إن الذي أجبر الملك فاروق على التوقيع على وثيقة التنازل هو الضابط عبد المنعم عبد الرؤوف أحد أفراد الدعوة المخلصين في قصر المنتزه في الإسكندرية ، ووزع الإخوان عشرة آلاف مسلح في القاهرة وحدها لحماية الثورة ، ولقد كتب فاروق في مذكراته: (إن الإخوان المسلمين هم الذين قلبوا عرشي) (وما كان ضباط الثورة إلا العوبة بأيديهم ، ولقد أراد الإخوان المسلمون ضربي في عرض البحر لولا أني أمرت ربان السفينة تغير اتجاهها)(1). 1- أنظر فاروق بين القمة والحضيض.
أقول بعد الثورة طلب مجلس الثورة من الأستاذ سيد أن يكون مستشارهم للشؤون الداخلية فقبل ، ولكن لم يستطع العمل معهم اكثر من ثلاثة أشهر ، وثلاثة أشهر أخرى على مضض وبفتور ثم تركهم لأن طبيعته لا تقبل الالتواء والتثني.
سجنه الطويل:
لقد بدأت سلسلة المحن تتوالى على الدعوة وعلى كبار رجالاتها ، والحق أن سيدا من بين النفر القليل الذين أعطوا الدعوة أوقاتهم وحياته ودماءهم وأموالهم ، ولم يروا من إقبال الدنيا على الدعوة شيئا ، فقد أقبل عليها ودنياها في إدبار ، ورحم الله خباب بن الارت إذ يقول: (هاجرنا مع رسول الله ص في سبيل الله نبتغي وجه الله ، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى ، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا منهم مصعب بن عمير ، قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفن فيه)(1). 1- رجال حول الرسول ص(74).
وفي سنة (4591م) وبعد تمثيل فصول مسرحية الرصاصات على الطاغوت عبد الناصر في منشية البكري في الإسكندرية ، بدأت اعتقالات الإخوان وغيبت السجون المظلمة وراء جدرانها آلاف الشباب ، ولم يكن سيد لينجو إذ كان رئيسا لقسم نشر الدعوة آنذاك ، وكان من المفروض أن يكون سابع السبعة الذين علقوا على الأعواد شنقا ( وهم الشهداء:عبد القادر عودة ، محمد فرغلي ، يوسف طلعت ، إبراهيم الطيب ، هنداوي دوير ، محمود عبد اللطيف).
إلا أن إرادة الله أخرت شهادته ليكتب الظلال والمعالم ، وخصائص التصور الإسلامي ، فلقد أصيب سيد قطب من جراء التعذيب الشديد بنزيف في الرئة مما اضطرهم إلى نقله إلى المستشفى ونفذ الإعدام وهو في المستشفى ، وثارت ثائرة الشعوب المسلمة وعبرت عن سخطها بتظاهرات احتشدت أمام السفارات في الدول العربية والإسلامية ، وأحرقت بعض الأماكن وانهال سيل البرقيات الساخطة من المسلمين في كل مكان ، تكيل اللعنات وتنذر بالثبور والويل للقتلة ومصاصي الدماء.
وصدر وعد من القصر الجمهوري ألا يحدث إعدام فيما بعد ، وجاءت محاكمة سيد قطب في الحلقة الثانية ، وكانت المحاكمة مفتوحة ويرأس محكمة الشعب فيها جمال سالم وحوله عضوان حسين الشافعي وأنور السادات ، ولقد أبدى سيد قطب جرأة نادرة أمام ما يسمون بالقضاة ، فلقد خلع قميصه أمام المحكمة وقال بسخرية: انظروا يا قضاة العدالة!! ثم قال نحن نريد أن نسأل ، آينا أحق بالمحاكمة والسجن نحن أم انتم? إن لدينا وثائق أنكم عملاء للمخابرات الأمريكية ، وبدأ يسرد الوقائع والوثائق التي تصمهم بالخزي وتسمهم بالصلات المشبوهة بكافري -السفير الأمريكي آنذاك- مما اضطر جمال سالم أن يرفع الجلسة ويغلق المحاكمة.
وصدر الحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة ، ، وبعد فترة ولأسباب صحية خ فف الحكم إلى خمسة عشر عاما .
وأودع سيد قطب ليمان ط ر ه (السجن الذي يضم المئات من شباب الإخوان) ، ولقد شهد بأم عينيه مذبحة الإخوان في ليمان طره عندما فتحت الحكومة الرشاشات على الإخوان حيث قتل من عنبر واحد ، واحد وعشرون من شباب الإخوان والتصقت لحومهم بالحائط ، ومن شاء الإستزادة فليقرأ كتاب (أقسمت أن أروي لروكس معكرون).
كان سيد قطب مصابا بالتهاب في الشعب الهوائية ، فوضع في مصحة السجن (مستشفى صغير للسجن مع المصابين بالأمراض الصدرية كالس ل من المجرمين المسجونيين ، واستأذن من إدارة السجن أن يضع حواجز من القماش بينه وبين المرضى فأذن له ، فوضع حواجز من القماش المقوى فأصبح كأنه في غرفة مستقلة ، وألحق به داخل الحواجز القماشية محمد يوسف هواش ، وكانت هذه جريمة لهواش استحق عليها الإعدام سنة (6691م).
وبقي الأستاذ سيد صابرا محتسبا في سجنه يربي إخوانه من حوله بالصدق ويفيض عليهم من روحه المشرقة ، ويضمهم في حنايا قلبه الكبير ، وكان يرد على الذين يحاولونه المهادنة والإستسلام: (إن في صبرنا صبر للكثيرين) وهي نفس كلمة الإمام أحمد بن حنبل.
وساءت حالته الصحية في السجن وأصيب بالذبحة الصدرية ، وأصبح جسده الناحل يحمل في طياته قائمة من الأمراض ، وهو م صر على البقاء في السجن وكانت الذبحة تصيبه مرتين في الأسبوع (الذبحة تشبه الجلطة).
وقدم الأطباء المشرفون على صحته تقارير لعبد الناصر ونصحوه قائلين: إن كان يهمك ألا يموت هذا الرجل في السجن فأخرجه لأنه معرض للموت في كل لحظة ، وماطل عبد الناصر ، ولقد تدخل المرحوم أحمد أوبلو -رئيس وزراء نيجيريا- الشمالية الذي أسلم على يديه ستمائة ألف مسلم- لإخراجه من السجن أثناء مروره بالقاهرة قبل قتله بفترة وجيزة فكذبوا على أحمد أوبلو متظاهرين بإخراجه فنقلوه إلى مستشفى القطر العيني(جامعة القاهرة) ، وكانت حالته الصحية تستدعي هذا النقل ، لأن مصحة السجن لم تعد بعلاجاتها وأدواتها البسيطة لم تعد تكفي لعلاج أمراضه.
ومكث في القصر العيني ستة أشهر وأعيد إلى مصحة ليمان طرة ، وفي نيسان سنة (4691م) أقيمت الإحتفالات بمناسبة الإنتهاء من المرحلة الأولى للسد العالي ، واستضافت مصر خريتشوف لمشاهدة الإحتفالات ، وأخرج الشيوعيون من السجون تحية لخريتشوف ، وكان عبد السلام عارف من بين الذين د عوا للمشاركة في الإحتفال ، وتلقى عبد السلام عارف برقية من مفتي العراق الشيخ أمجد الزهاوي يقول فيها: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ، فاشفع بسيد) فتوسط عبد السلام لإخراجه فأخرج الأستاذ سيد من السجن في سنة (4691م) ، ولقد عرض عليه عبد السلام أن يصحبه إلى العراق ويكون مستشاره ، ولكن الأستاذ سيد استماحه عذرا ، متعللا بصحته التي تشرف على الرحيل وتؤذن بالوداع ، ولكن السبب الحقيقي وراء اعتذاره هو الذي وض حه قائلا :(إننا بإسنادنا ولو بالآراء لوضع جاهلي ، فإننا نحكم بالإعدام على كل كتاباتنا ضد الطواغيت ، وتصبح كملتنا حبرا على أوراق).
والحقيقة أن عبد الناصر ما وافق على إخراجه إلا بعد تيق نه أن سيد قطب قد است هلك وأضحى حطام إنسان ليس لديه طاقة على حركة أو تجميع.
ولكن الروح هي التي تعمل ، فلقد كان الأستاذ سيد قد أعد مسودات المعالم وبدأ بمراجعتها ، ثم دفع بها إلى المطبعة ، وخرج المعالم لتنفذ الطبعة الأولى التي أصدرتها مكتبه وهبة في وقت جد قصير ، مما أدهش المخابرات المصرية ، وتحرك الشيوعيون الذين قرأوا كلمات المعالم كلمة كلمة ، وأيقنوا أن هذا سيعصف بتنظيمهم الذي تقوى في فترة غياب الشباب المسلم في غياهب السجون ، واجج الشيوعيون نار الحقد والبغضاء التي ما هدأ أوارها لحظة في قلب عبد الناصر.
جاء أحد الناس إلى الأستاذ محمد قطب وأخبره بأن الشيوعيين جاد ون في محاولة قتلك وقتل أخيك سيد قطب.
ويرى الأستاذ سيد في منامه أفعى حمراء تلتف حول عنقه فحدث بها جلساءه فقالوا أضغاث أحلام ، فقال: ولكني أظنها المشنقة التي ي مسك بها الشيوعيون.
وحاولت الحكومة أولا أن تقضي على الظاهرين من الدعاة باغتيالات فردية ، وابتدأت المحاولة بالحاجة المجاهدة (زينب الغزالي) إذ داهمت سيارة كبيرة للمخابرات أو بإيعاز منها سيارتها وكسرت رجلها ، ومكثت على إثرها عاما كاملا في المستشفى ، وانتشر الخبر بأن المخابرات جاده في قتل سيد قطب ، وزينب الغزالي ، ومحمد قطب ، ومحمد هواش فنكلت المخابرات عن خطتها ، وأقبل صيف (5691م) الذي يحمل بين جوانحه ما تخبؤه الأقدار للدعوة الإسلامية ، من اعتقال وتشريد وإعدام بتنفيذ المخططات التي ترسم بروتوكولات ها في الكرملين والقصر الأبيض لتنفذ من خلال المخالب في المشرق.
واعتقل سيد قطب في (62/آب/5691م) وأودع السجن الحربي بعد أن انتقل من سجن إلى سجن وانتهى به المقام في الحربي ، وفي أوائل اعتقاله ألقي في زنزانة مظلمة بين أربعة كلاب بوليسية وظيفتها إرهاب السجناء بالإضافة إلى انتهاش لحومهم ، وتقطيعها فور تلقيها أية إشارة من الكلاب البشرية.
وأسندت تهمة الخيانة العظمى له بترأس تنظيم إرهابي يدعو إلى قلب نظام الحكم بالقوة ، وهذه حقيقة وكلمة حق أريد بها باطل ، فصاحب الحق يدعو لانتصار دينه وتطبيق الإسلام في كل مجالات الحياة ، ولا يهادن ولا يداهن ولايتنازل عن هذا الحق الذي يطالب به.
نعم لقد عهد إليه فضيلة المرشد بقيادة تنظيم سنة (2691م) وأطاع الأمر إذ أنه يعرف معنى الطاعة في الإسلام ، وأن طاعة الأمير فريضة في الأعناق ، ومعصيته إثم يستحق صاحبه العقاب ، فقبل وأشرف على تربية أفراده بكتاباته وهو في داخل السجن ، ثم أشرف بنفسه ووهب التنظيم حياته ، وروحه ، ووقته ، وفكره ، هذا التنظيم الذي يشير إليه في مقدمة المعالم بأنه طليعة البعث الإسلامي ، وهو يعتقد تماما أن صلاح البشرية وسعادتها وراحتها متوقفة على نجاح الحركة الإسلامية كما يقول في مقدمة الظلال ص(51) -دار الشروقـ: (وانتهيت من فترة الحياة في ظلال القرآن إلى يقين جازم حازم... أنه لا صلاح لهذه الأرض ، ولا راحة لهذه البشرية ، ولا طمأنينة لهذا الإنسان ولا رفعة ، ولا بركة ، ولا طهارة ، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة إلا بالرجوع إلى الله ، والرجوع إلى الله -كما يتجلى في ظلال القرآن- له صورة واحدة ، وطريق واحد... واحد لا سواه... إنه العودة بالحياة كلها إلى هذا الكتاب).
لقد كان وهو يستجيب لأمر المرشد بالإشراف على التنظيم ممن قال الله فيهم:
(الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح ، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم)
(آل عمران: 271)
وبقي التحقيق والتعذيب مستمرا عاما كاملا من آب سنة (5691م) حتى آب سنة (6691م) ، وإن كان القضاة سلفا قد ارتشفوا دمه ، وقد كان الجلادون حريصين ألا يموت سيد قطب ليبقى معذبا فكانوا يربطونه بالكرسي ويقولون: (نحن نعلم أنك إذا عذبت ستموت ، ونحن لا نريد أن تموت فتستريح).
ولقد بدأ الأستاذ سيد عملاقا إب ان التحقيق والمحاكمات ، فكثيرا ما كان يسخر من الضباط الخائنين الذين انقلبوا بين عشية وضحاها قضاة يحكمون في الدماء والأعراض.. كالدجوي الذي ترأس المحكمة ، وقد كان ممن وقع في الأسر سنة (6591م) ، وقد كان يهاجم مصر من خلال اذاعة إسرائيل ، وقد كان سيد بأسلوبه اللاذع الساخر يقابل الذئاب البشرية التي تمسك بخناق المسلمين ، وتتربع على عرش مصر ، وتحكم بالحديد والنار ، وتجتث بما في أيديها من وسائل بقايا الخلق والقيم من المجتمع ، وتحارب بأقلامها وأجهزتها كل فضيلة آدمية ، أو مبدأ رباني ، أو أرضي ،
واستطاع سيد بصبره وترفعه وبصيرته أن يبين سخافة هؤلاء الأمساخ والتف حوله الفئة المؤمنة التي استطاعت بطاعتها واحترامها له أن تقتل الجلادين غما وحقدا وغيظا ، قال أحد المحققين للحاجة زينب الغزالي -حفظها الله-: (إن سيد قطب كذب عليك وقال عنك..) فقالت: حاشا لله أن يكذب سيد.
وقالوا لشاب مؤمن: هل اتصلت بسيد قطب? فأنكر وأصر على إنكاره رغم التعذيب ، فقالوا له: ولكن سيد قطب يقول: انك قد اتصلت به ، فقال الشاب: إن كان قالها فقد صدق!! وهي نفس الكلمة التي قالها الصديق أبو بكر بصدد الإسراء والمعراج.
ولقد اهتز كيان الطاغوت عند رؤية هذه الفئات ، وصعقوا إذ أنهم ظنوا أن قد قضى على الإسلام والجماعة المسلمة ، وإذا بهم يفاجئون بنماذج أنقى ، وبفئات أصلب عود ا وأشد في دين الله مما رأوا من ذي قبل ، وهم في هذه المرة من الشباب المتعلم المثقف بل معظمهم من الكليات العلمية ، والعملية كالطب والهندسة والعلوم والذرة ولهول الصدمة كانت ضرباتهم جنونية ، ولقد استشهد تحت التعذيب مائتان وثمانون شابا من هذه النماذج وكانت النازلة شديدة الوقع على الطاغوت ، وكاد ي ج ن حقا ، وبدأ يصرخ في وجوه المخابرات صرخات محمومه جنونية (إزاي يسرقوا مني جيل الثورة ، قباني (بائع قطن وهو الشهيد عبد الفتاح إسماعيل) ، وامرأة يعني (زينب الغزالي) ، وأضطرب كيانه وساءت صحته ، وخارت قواه العقلية والعصبية مما اضطره أن يذهب إلى روسيا حيث الحم امات الساخنة والجلسات الكهربائىة ، وبعد أن أمسك بأنفاسه في روسيا أعلن من فوق قبر لينين: (لقد اكتشفنا مؤامرة للإخوان المسلمين ، ولئن عفونا المرة الأولى ، فلن نعفو المرة الثانية) وأعطيت الأوامرالشديدة فكان التعذيب الرهيب الذي استمر قرابة عام أثناء التحقيق ، وهنالك علاوات الإجرام ، ويحضرني قصة كتبها أحمد رائف في البوابة السوداء يقول فيها: (مات أحدنا لشدة التعذيب في الزنزانة وعندما فتح السجان باب الزنزانة صباحا قلنا: يا أفندم مات واحد فقال السجان: (يا أولاد الكلب بسى واحد مات ، حانودي وشنا فين من المسئول).
تقول الحاجة زينب الغزالي: لقد ضربوني ستة آلاف وخمسمائة سوط وكانت غرف التعذيب ثلاثين غرفة تختلف أدوات التعذيب في كل واحدة عن الأخرى ، وكان لا بد أن يصدر حكم الإعدام على الأستاذ سيد ، وعلى تلميذه محمد يوسف هواش وعلى الشيخ عبدالفتاح إسماعيل ، قال سيد عند صدور الحكم: (الحمد لله لقد جاهدت مدة خمسة عشر عاما حتى نلت هذه الشهادة) ، وقال الشيخ عبد الفتاح: (فزت ورب الكعبة).
ولقد ملك كل واحد منهما بصبره العجيب القلوب ، حتى قلوب جلاديه ، فلقد كان ضباط الحربي يقولون للشيخ عبد الفتاح: والله ان هذه البلد لا تستحقك ، فأنت درة ضائعة في مصر.
جاءت الأرحام من آل قطب لزيارة سيد بعد صدور حكم الإعدام ، فطوقهم بذراعيه وقال: (لقد دعوت الله عزوجل أن ينفذ الحكم لتكون الشهادة ، دعوت الله أن يجعل هذه العائلة كلها شهداء ، هل قبلتم? قالوا: قبلنا ، ونفذ حكم الإعدام في سحر ليلة الإثنين (92) آب (6691م) ، وفاضت هذه الروح الكبيرة إلى بارئها بعد أن أدت دورها ، وقد تبدو هذه النتيجة في حساب الأرض أسيفة أليمة ، وقد يعد ها البشر هزيمة مريرة ، لكن كما يقول هو في فصل (هذا هو الطريق): وهو يتحدث عن أصحاب الأخدود ص(532) من معالم في الطريق: (إن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة ، وانتصار العقيدة على الألم ، وانتصار الإيمان على الفتنة... وفي هذا الحادث انتصرت الفئة المؤمنة انتصارا يشرف الجنس البشري كله.. إن الناس جميعا يموتون ، وتختلف الأسباب ، ولكن الناس جميعا لا ينتصرون هذا الإنتصار ولا يرتفعون هذا الإرتفاع ، ولا يتحررون هذه التحرر ، ولا ينطلقون هذا الإنطلاق إلى هذه الآفاق ، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده ، لتشارك الناس في الموت ، وتنفرد دون الناس في المجد في الملأ الأعلى ، وفي دنيا الناس أيضا ، إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال ، لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم ، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم ، وكم كانت البشرية كلها تخسر? كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير? معنى زهادة الحياة بلا عقيدة ، وبشاعتها بلا حرية ، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد).
ولقد صدق الله فصدقه ، إذ كان يتمنى الشهادة صادقا -والله أعلم- فرزقه الله إياها: تقرأ له مقالا كتبه سنة (2591م) في كتابه دراسات إسلامية ص (831) ، فكأنك تلمح من خلاله أنه يخط بالهام من الله نهايته إذ يقول: (إنه ليست كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها ، وتجمعها ، وتدفعها ، إنها الكلمات التي تقطر دماء لأنها تقتات قلب إنسان حي. كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب انسان ، أما الكلمات التي ولدت في الأفواه ، وقذفت بها الألسنة ، ولم تتصل بذلك النبع الإلهي الحي ، فقد ولدت ميته ، ولم تدفع بالبشرية شبرا واحدا إلى الإمام ، إن أحدا لن يتبناها لأنها ولدت ميته ، والناس لا يتبنون الأموات ، ويكتب عند آية:
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومن أوفى بعهده من الله ، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)
(التوبة: 111)
(إن الدخول في الإسلام صفقة بين متابيعين.. الله سبحانه هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع ، فهي بيعة مع الله لايبقى بعدها للمؤمن من شيء في نفسه ، ولا في ماله يحتجزه دون الله -سبحانه- ودون الجهاد في سبيله ، لتكون كلمة الله هي العليا ، وليكون الدين كله لله...
إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن... كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ، ومنذ كان دين الله.. إنها السنة الجارية التي لا تستقيم الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها ، بعونك اللهم فإن العقد رهيب.. وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم (مسلمين) في مشارق الأرض ومغاربها ، قاعدون ، لا يجاهدون لتقرير الوهية الله في الأرض ، وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد ، ولا يقتلون ولا ي قتلون ، ولا يجاهدون جهادا ما دون القتل والقتال)(1). 1- في ظلال القرآن (11/6171) -ط/الشروقـ.