هل يمكن أن تكون
المواطنة أساساً شرعياً لعلاقة المسلمين بغيرهم!
لا شك أن نظرة المسلمين إلى
غير المسلمين نظرة فريدة في مقدار تسامحها، مقارنة مع "الأديان" الأخرى. يتجلى هذا
التسامح في مظاهر عديدة منها؛ أن الله تعالى جعل التعامل مع غير المسلمين قائماً
على البر. قال تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجكم من دياركم أن
تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"1. وبناءً لذلك فقد أمر الإسلام
بمجادلة أهل الكتاب عند الاختلاف بالتي هي أحسن، قال تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا
بالتي هي أحسن"2.
وقال أيضاً: "وإن
جادلوك فقل الله أعلم بما تعلمون، الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه
تحتلفون"3. وأكثر من
ذلك، فقد احترم الإسلام كرامة الناس البشرية، بغض النظر عما يعتقدون، انطلاقاً من
أصل الرابطة الإنسانية الواحدة. روى البخاري أن جنازة مرت بالنبي -صلى الله عليه
وسلم- فقام، فقيل له إنها جنازة يهودي، فقال: "أليست
نفساً؟!"4.
إضافة إلى هذه الأصول، فقد
أقر الإسلام لغير المسلمين بحرية الاعتقاد والعبادة، حتى بوجود دولة إسلامية: قال
تعالى: "فمن شاء
فليؤمن ومن شاء فليكفر"5، كما أباح الإسلام طعام أهل الكتاب والزواج منهم، قال تعالى:
"الْيَوْمَ أُحِلَّ
لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ
وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ"6، وأباح
فقهاء المسلمين الصدقة على أهل الكتاب، لفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك مع
اليهود، كما أباحوا زيارتهم وعيادة مريضهم، وقد روى البخاري عن أنس أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- عاد يهودياً وعرض عليه الاسلام فأسلم، فخرج وهو يقول: "الحمد الله
الذي أنقذه بي من النار".
ولعل هذه النظرة السمحة
للمسائل المتعلقة بغير المسلمين تختلف عن كثير من الاجتهادات الفقهية التي سادت
اعتباراً من العهد الراشد، نظراً إلى أن طرح الدولة الإسلامية في عالم اليوم يختلف
عن السياق الذي قامت بناءً عليه الدولة الإسلامية في الماضي، مما لم يعرض لأحكامه
الفقهاء السابقون، على اعتبار أن قيام الدولة الإسلامية اليوم يقوم على أساس وجود
أغلبية مسلمة تريد التعبير عن نفسها، لا على أساس فتح أرض بعد حرب المسلمين لأهلها.
ويقود هذا العرض بالضرورة
إلى مسألة عقد الذمة، التي سادت علاقة المسلمين بغيرهم في القرون الإسلامية الأولى،
وهو عقد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية
وضمانها، بشرط بذلهم الجزية، وقبولهم أحكام دار الإسلام في غير شؤونهم الدينية.
وهذا العقد يوجب لكل طرف حقوقاً ويفرض عليه واجبات، مما تقتضيه الحال، التي ليس من
ضمنها إذلال أهل الكتاب جزاء عقيدتهم كما يحب البعض أن يصوّر، خصوصاً أن عقد الذمة
ليست فكرة إسلامية ابتداءً، وإنما هي مما وجده الإسلام شائعاً بين الناس عند بعثة
النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فأكسبه مشروعية، وأضاف إليه تحصيناً جديداً، بأن
حوّل الذمة من ذمة العاقد أو ذمة المجير، إلى ذمة الله ورسوله والمؤمنين، أي ذمة
الدولة الإسلامية نفسها، وبأن جعل العقد مؤبداً لا يقبل الفسخ حماية للداخلين فيه
من غير المسلمين. أما الجزية فلم تكن ملازمة لعقد الذمة، في كل حال كما يـُظن، بل
استفاضت أقوال الفقهاء في تعيينها، وقالوا إنها "بدل عن اشتراك غير المسلمين في
الدفاع عن دار الإسلام"، لذلك أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل منهم الاشتراك في
الدفاع عنها، كما حصل مع أهل أرمينية وأهل انطاكية، في زمن الخليفة الراشد عثمان بن
عفان7.
وكما هو معلوم
فإنالدول في السابق كانت تقوم على
أساس العقيدة الدينية، مضافاً إليها أبعاداً قومية، لذا فقد اقتضى الأمر منظومة من
الأحكام المبنية على هذا الأساس، وبما أن الدول -في عصرنا الحالي- باتت تقوم على
أسس مختلفة، فإن أي دولة إسلامية (من منظور الحكم القائم أو الأغلبية الشعبية) ستجد
نفسها في ظل واقع متغير، ووسط دول تقوم على أساس جغرافي يحوي في داخله أعراقاً
وقوميات وأدياناً، الأمر الذي يفرض منظومة أحكام شرعية تتناسب مع هذا الواقع.
هذه المتغيرات تطرح اليوم
مفهوم المواطنة كأساس لعلاقة المسلمين بغير المسلمين، وليس أي علاقة أخرى، بحيث لا
يكون ثمة فرق بين مسلم وغير مسلم في التمتع بالخدمات وشغل وظائف الدولة غير
الدينية، حتى في ظل قيام حكم إسلامي في بلد ما.
يقول الدكتور محمد سليم
العوا: "لقد انقضى العقد الذي كان يعرف تاريخياً باسم عقد الذمة، بانقضاء الدولة
الإسلامية وظهور دول قومية غالبية أهلها من المسلمين وأقليته من غيرهم... وإذا كان
عقد الذمة قد انقضى ولم يعد أي من أطرافه قائماً فقد نشأ الوضع الجديد وهو
المواطنة". ويضيف العوا: "بما أن الجزية كانت تؤخذ بدلاً عن أداء غير المسلمين
لواجب الدفاع عن الدولة بإجماع العلماء، فلما تحوّل الأمر من جيش ديني إلى جيش وطني
لم يعد لفكرة الجزية محل وسبب، وذهبت أدراج التاريخ كفكرة الذمة
نفسها"8.
وهكذا فليس ثمة ما يمنع من
قيام علاقة بين المسلمين وغير المسلمين على أساس المواطنة-في ظل دولة مسلمة وتقيم
حكماً إسلامياً-، لأن المواطنة عبارة عن العضوية في الدولة، وهي على هذا الأساس
تعني وجود امتيازات وواجبات بالنسبة للمواطن، لمن يقيم في الدولة ويتكلم لغتها،
ويخضع لها، ويدافع عنها ويخلص في ولائه لها، أي لمن يحمل صفة العضوية فيها، بغض
النظر عن دينه.
تلك هي النظرة "الوسطية"
للعلاقة مع غير المسلمين في دول اليوم، وفي ظل أي نظام إسلامي يحكم أي دولة، غالبية
أهلها من المسلمين في هذا الشرق.