كان يمزح ولا يقول إلا حقاً
--------------------------------------------------------------------------------
من
هدي رسول الله
لم يفرض الإسلام على الناس أن يكون كل كلامهم ذكراً، وكل
سماعهم قرآناً، وكل فراغهم في المسجد، ولم تكن حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا
مثالاً رائعاً للحياة الإنسانية المتكاملة، فهو في خلوته يصلى ويطيل الخشوع
والبكاء، ويقوم الليل حتى تتورم قدماه، وهو في الحق لا يبالي بأحد في جنب الله،
ولكنه مع الحياة والناس بشر سوي، يحب الطيبات ويبش ويبتسم ويداعب ويمزح ولا يقول
إلا حقاً، ولم يكن صلى الله عليه وسلم جهماً ولا قاسياً ولا فظاً ولا غليظاً:
“وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضوا مِنْ حَوْلِكَ”، بل كان بساماً
في وجوه أصحابه، وكان أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين يعرفون سروره من طلاقة وجهه،
ويخبرنا كعب بن مالك رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان “إذا سر استنار وجهه
كأنه قطعة قمر”، وكان جل ضحكه التبسم، ويقول عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله
عنه: “ما رأيت أحدا أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وعن جرير بن عبد
الله رضي الله عنه قال: “ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني
إلا ضحك”، وفي رواية “إلا تبسم”، وكان يقول: “تبسمك في وجه أخيك صدقة”.
مع
الصحابة
وكان صلى الله عليه وسلم يشارك أصحابه في ضحكهم ومزاحهم،
وكان من بين المعروفين بروح المرح والفكاهة والميل إلى المزاح النعيمان بن عمر
الأنصاري، رضي الله عنه، وهو ممن شهد العقبة الأخيرة، وشهد بدرًا وأُحدًا، والخندق،
والمشاهد كلها، وكان لا يدخل المدينة طرفة (فاكهة) إلا اشترى منها، ثم جاء بها إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: ها أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطالب نعيمان
بثمنها، أحضره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قائلا: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: “أو
لم تهده لي”؟ فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك،
ويأمر لصاحبه بثمنه.
ودخل أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأناخ ناقته
بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري: لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا
إلى اللحم ففعل، فخرج الأعرابي وصاح: واعقراه يا محمد، فخرج النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: “من فعل هذا؟” فقالوا: النعيمان، فاتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار
ضباعة بنت ال.......ر بن عبد المطلب، واستخفى تحت سرب لها فوقه جريد، فأشار رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم حيث هو فأخرجه فقال له: “ما حملك على ما صنعت؟” قال:
الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك قال: فجعل يمسح التراب عن وجهه
ويضحك، ثم غرمها للأعرابي.
وعن أنس أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً
كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية فيجهزه رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا أراد أن يخرج فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن زاهر باديتنا ونحن
حاضروه”، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه وكان رجلاً دميماً فأتاه النبي صلى
الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره فقال الرجل:
أرسلني، من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره
بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “من
يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله: إذاً والله تجدني كاسداً فقال: صلى الله عليه
وسلم، لكن عند الله لست بكاسد أو قال: لكن عند الله أنت غالٍ”.
ويحكي لنا
أنس رضي الله عنه مداعبة النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابى الذي طلب منه ناقة يحمل
عليها متاعه في سفره: يقول أنس رضي الله عنه: استحمل رجل رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنى حاملك على ولد ناقة، فقال الرجل: يا
رسول الله، وما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تلد
الإبل إلا النوق؟”.
ويقول عوف بن مالك الأشجعي: أتيت رسول الله في غزوة
تبوك وهو في قبة من آدم، فسلمت فرد وقال: “ادخل، فقلت: أكلي يا رسول الله؟ قال:
كلك، فدخلت”، قال عثمان بن أبي العاتكة: إنما قال: (أدخل كلي) من صغر
القبة.
وبينما أسيد رضي الله عنه يحدث القوم وكان فيه مزاح، بينما يضحكهم
فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود فقال: أصبرني، فقال: “اصطبر”، قال:
إن عليك قميصاً وليس علي قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه،
وجعل يقبل كشحه قال: إنما أردت هذا يا رسول الله.
مع
الأهل
وقد وصفه أصحابه بأنه كان من أفكه الناس، ولم يكن ذلك قصرا
على صحابته، بل هو في بيته صلى الله عليه وسلم يمازح زوجاته ويداعبهن، ويستمع إلى
أقاصيصهن، ورأينا كيف تسابق مع عائشة رضي الله عنها، حيث سبقته مرة، وبعد مدة
تسابقا فسبقها، فقال لها: هذه بتلك!
وتروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها (الخزانة
الصغيرة يوضع فيها الشيء) ستر فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال:
“ما هذا يا عائشة؟”، قالت بناتي، ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع فقال: “ما هذا
الذي أرى وسطهن”، قالت: فرس، قال: “وما هذا الذي عليه؟”، قالت: جناحان، قال: “فرس
له جناحان”، قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟، تقول عائشة: فضحك (صلى
الله عليه وسلم) حتى رأيت نواجذه.
وكان صلى الله عليه وسلم يمزح مع أقاربه،
فيأتي علياً ابن عمه وزوج ابنته، وهو مضطجع في المسجد، بعد أن سأل عنه فاطمة رضي
الله عنها، فقالت كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج، فيقول له: (قم أبا التراب، قم
أبا التراب).
مع الأطفال والعجائز
وكان أكثر من يمازح
الصغار، ويلاعبهم ويلاطفهم، ويروى أنه صلى الله عليه وسلم وطأ ظهره لسبطيه الحسن
والحسين، في طفولتهما ليركبا، ويستمتعا دون تزمت ولا تحرج، وقد دخل عليه أحد
الصحابة ورأى هذا المشهد فقال: نعم المركب ركبتما، فقال عليه الصلاة والسلام: “ونعم
الفارسان هما!”.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم سليم
ولها ابن من أبي طلحة يكنى أبا عمير، وكان يمازحه، فدخل عليه فرآه حزيناً فقال: “ما
لي أرى أبا عمير حزيناً؟ فقالوا: مات نغره الذي كان يلعب به، قال: فجعل يقول: أبا
عمير.. ما فعل النغير”، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفّ عبد الله وعبيد
الله وكثيراً بني العباس ثم يقول: “من سبق إلي فله كذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون
على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم”.
وكان صلى الله عليه وسلم متواضعاً
منبسطاً مع عامة المسلمين على اختلاف منازلهم، وتحكي السيدة عائشة رضي الله عنها
ممازحته لعجوز من الأنصار فتقول: “أتت عجوز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: يا أم فلان إن الجنة لا
يدخلها عجوز: فولت المرأة تبكى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروها أنها
لا تدخلها وهى عجوز، إن الله يقول: “إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكاراً. عربا
أتراباً” (الواقعة: 35 37).
وقال زيد بن أسلم: إن امرأة يقال لها أم أيمن
جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي يدعوك، قال: “ومن هو؟ أهو الذي
بعينه بياض”؟ قالت: والله ما بعينه بياض فقال: “بلى إن بعينه بياضا” فقالت: لا
والله، فقال صلى الله عليه وسلم: “ما من أحد إلا بعينه بياض”.
وليس المقصود
أن كل حياة النبي صلى الله عليه وسلم مرح وضحك ومزاح بل كان يبكي كثيراً ويضحك
قليلاً ويقول: “والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً”، وقد نهانا
عن المزاح إذا صاحبته مخالفة شرعية، وتروي كتب السنة أن أصحاب رسول الله كانوا
يسيرون مع رسول الله في مسير فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى نبل معه فأخذها فلما
استيقظ الرجل فزع فضحك القوم فقال: ما يضحككم؟ فقالوا: لا، إلا أنا أخذنا نبل هذا
ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً”، وقال صلى
الله عليه وسلم: “لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه جاداً ولا لاعباً، وإذا وجد أحدكم عصا
صاحبه فليردها عليه”.
وقال صلى الله عليه وسلم: “ويل للذي يحدث بالحديث
ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له”، وقال: “إن الرجل ليتكلم الكلمة لا يريد بها
بأساً إلا ليضحك بها القوم فإنه يقع فيها أبعد ما بين السماء والأرض”، وعن أبي
هريرة قال: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا قال: “إني لا أقول إلا حقاً”.