إلى أين تؤدي الثقوب السوداء ؟
إذا سافرت عبر ثقب أسود، إلى أين ستذهب؟ حسنًا، أنت الآن على وشك القفز إلى ثقب أسود، إذا افترضنا أنك ستنجو رغم كل شيء، ما الذي يمكن أن ينتظرك هناك؟ وإلى أين سينتهي بك المطاف؟ وما الحكايات المشوقة التي يمكن أن تسردها لنا إذا نجحت في العودة؟ يجيب على كل هذه التساؤلات البروفيسور ريتشارد ماسي Richard Massey -الباحث بالجمعية الملكية بمعهد علوم الكونيات الحاسوبية بجامعة دورهام- بإجابة بسيطة: «من يدري؟». يدرك ماسي تمام الإدراك أن أسرار الثقوب السوداء في غاية العمق.
حسبما قال: «السقوط في أفق الحدث: هو حرفيًا المرور إلى ما وراء حجاب، فبمجرد أن يسقط شخص مارًا به، لا يمكنه إرسال أي شيء إلى خارجه، لأنه سيُمزَّق إلى أجزاء بواسطة الجاذبية الهائلة، لذلك أشك في أن أي شخص يسقط خلال ثقب أسود قد ينتهي به الحال في أي مكان».
تلك إجابة مخيبة للآمال ومؤلمة، إلا أنها متوقَعة. منذ أن تنبأت نظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين بوجود الثقوب السوداء من خلال ربط الزمكان space-time بالجاذبية، أصبح من المعروف أن الثقب الأسود ينشأ نتيجة موت نجم ذي كتلة ضخمة، ينتج عنه نواة صغيرة كثيفة جدًا.
إذا افترضنا أن كتلة تلك النواة المتبقية من النجم أكبر من ثلاثة أضعاف كتلة الشمس تقريبًا، ستكون جاذبيتها قوية لدرجة أن تنهار على نفسها في نقطة واحدة هي (نقطة التفرد singularity)، وهو المركز ذو الكثافة اللا نهائية للثقب الأسود.
لدى هذا الثقب الأسود غير المألوف جاذبية هائلة لا يمكن لأي شيء الإفلات منها حتى الضوء. لذا، إذا وجدت نفسك في أفق الحدث، فلن يمكنك الهرب. (أفق الحدث event horizon هو النقطة التي لا يمكن للضوء أو المادة أن يتخطياها إلا في اتجاه الدخول، وفقًا لما اقترحه العالم الألماني كارل شوارزشيلد Karl Schwarzschild).
وفقًا لما قاله ماسي، ستقلص قوى الشد جسدك إلى خيوط من الذرات، أو ما يعرف (بتأثير المعكرونية spaghettification)، وينتهي الأمر بانسحاقها في نقطة التفرد. لذلك فإن فكرة العبور إلى مكان آخر هي في واقع الأمر خيالية جدًا.
(Image credit: Karl Tate, SPACE.com contributor
ما هي الثقوب الدودية؟
درس العلماء على مدار سنوات إمكانية أن تكون الثقوب السوداء هي ثقوب دودية wormholes تؤدي إلى مجرات أخرى، أو -كما اقترح بعضهم- إلى أكوان أخرى.
ظلت تلك الفكرة سائدة لبعض الوقت، نتيجة لتعاون آينشتاين Einstein مع ناثان روزن Rosen عام 1935 في وضع نظرية الجسور التي تربط بين نقطتين مختلفتين في الزمكان، وانتعشت مرة أخرى في الثمانينيات عندما ناقش الفيزيائي كيب ثورن Thorne -أحد الخبراء البارزين في تطبيقات الفيزياء الفلكية لنظرية النسبية العامة- إمكانية انتقال الأجسام المادية عبرها.
قد صرح ماسي بأن قراءة كتاب ثورن عن الثقوب الدودية كان أول شيء يثير حماسه تجاه الفيزياء عندما كان طفلًا، ولكنه يعتقد أن من غير المحتمل وجود مثل تلك الثقوب في الحقيقة.
كتب ثورن -الذي استعان بخبراته فريق إنتاج الفيلم الهوليودي Interstellar-: «لا نرى في كوننا أجساماً يمكن أن تصبح ثقوباً دودية يومًا ما» (كتاب: علم ما بين النجوم Science of interstellar، نورتون وآخرون – 2014). صرح لموقع space.com بأن الرحلات عبر تلك الأنفاق النظرية ستبقى على الأرجح نوعًا من الخيال العلمي، فلا يوجد دليل على كون الثقوب السوداء قد تسمح بمثل هذا الانتقال.
لكن المشكلة هي أننا لا يمكننا الاقتراب لنرى بأنفسنا، إضاقةً إلى ذلك لا يمكننا تصوير أي شيء يحدث داخل الثقب الأسود؛ لأن الضوء لا يمكنه الفرار من الجاذبية المهولة، ولذلك لن تسجل الكاميرات أي شيء. تفترض النظرية أن أي شيء يتجاوز أفق الحدث، ببساطة يُضاف إلى الثقب الأسود، ونظرًا لتشوه الزمن بالقرب من الثقب الأسود، سيحدث الأمر ببطء شديد، لذلك فلن تكون الإجابات متوفرة على المدى القريب.
يقول دوغلاس فينكبينر Douglas Finkbeiner أستاذ الفيزياء الفلكية بجامعة هارفارد: «أعتقد أن ما يحدث في حقيقة الأمر هو انتهاء الزمن. لن يرى المراقب البعيد صديقه رائد الفضاء وهو يسقط في الثقب الأسود، فقط سيراه يزداد احمرارًا وخفوتًا كلما اقترب من أفق الحدث (بسبب ظاهرة الإزاحة الحمراء الناتجة عن الجاذبية)، أما الصديق فسيسقط مباشرة إلى ما وراء الأبدية، أيًا كان ما يعنيه ذلك».
تصور فني للثقوب الدودية، والتي قد تؤدي إلى كون آخر إن كانت موجودة بالفعل، ولكن لا يوجد دليل فعلي على وجودها، أو على أن الثقب الأسود سيكون بمثابة ثقب دودي.
ربما يؤدي الثقب الأسود إلى ثقب أبيض
طرح عالم الكونيات الروسي إيغور نوفيكوف Novikov عام 1964 نظرية تبحث في ما إذا كانت الثقوب السوداء بالفعل تؤدي إلى مجرات أو أكوان أخرى، فيعني ذلك أن هناك ما يقابلها على الجانب الآخر، فهل تكون ثقوبًا بيضاء؟. اقترح نوفيكوف أن الثقب الأسود متصل بثقب أبيض موجود في الماضي. وعلى عكس الثقوب السوداء، تسمح الثقوب البيضاء للمادة والضوء بالخروج منها، لكن لا تسمح لهما بالدخول.
واصل العلماء استكشاف العلاقة المحتملة بين الثقوب السوداء والبيضاء. زعم الفيزيائيان كارلو روفيلي وهال هاجارد في دراسة نشرت لهما في مجلةPhysical Review عام 2014: «إن مقياسًا تقليديًا يحقق معادلات آينشتاين خارج حدود الزمكان المتناهي، حيث تنهار المادة في الثقوب السوداء، ثم تبزغ مجددًا من الثقوب البيضاء». بعبارة أخرى، كل المادة التي ابتلعتها الثقوب السوداء يمكن أن تلفظها مجددًا، وتصبح الثقوب السوداء ثقوبًا بيضاء عند موتها.
بعيدًا عن تدمير المعلومات التي تمتصها، سيتوقف انهيار الثقوب السوداء، وستختبر بدلًا من ذلك (ارتدادًا كميًا quantum bounce)، ما سيسمح للمعلومات بالهرب. وإذا كان الأمر كذلك، فسيلقي هذا الضوء على طرح العالم ستيفن هوكينج Hawking -عالم الكونيات والفيزياء النظرية سابقًا بجامعة كامبريدج- الذي اكتشف في سبعينيات القرن الماضي احتمالية أن تبعث الثقوب السوداء جسيمات وإشعاعًا حراريًا، نتيجة لظاهرة تقلبات الكم quantum fluctuations.
قال فينكبينر: «لقد أخبرنا ستيفن هوكينج أن الثقب الأسود لن يدوم إلى الأبد». وفقًا لهوكينج، سيؤدي الإشعاع الصادر من الثقب الأسود إلى فقدانه للطاقة، وبالتالي إلى تقلصه ثم اختفائه، كما هو موضح في بحثه الذي نشر عام 1974 في مجلة Physical Review. حسب هذا الزعم، سيكون الإشعاع المنبعث عشوائيًا لا يحتوي على أي معلومات عما سقط بداخله، وستمحو الثقوب السوداء عند انفجارها الكثير من المعلومات.
يعني ذلك أن طرح هوكينج يناقض نظرية الكم التي تنص على أن المعلومات لا يمكن أن تُدمر. توضح الفيزياء أن إيجاد المعلومات سيصبح أكثر صعوبة؛ لأنه في حالة فقدانها من المستحيل معرفة الماضي أو المستقبل.
أدت فكرة هوكينج إلى مفارقة معلومات الثقب الأسود black hole information paradox التي حيرت العلماء لفترة طويلة، وقال البعض حينها إن هوكينج ببساطة مخطئ، وقد اعترف هوكنج نفسه بخطئه عام 2004 خلال أحد المؤتمرات العلمية في دبلن.
يدفعنا ذلك إلى العودة إلى المفهوم السابق حيث تحتفظ الثقوب السوداء بالمعلومات وتلقي بها خارجًا عبر الثقوب البيضاء. وفقًا لدراسة نشرت عام 2013، لكل من خورخي بولين من جامعة ولاية لويزيانا، ورودولفو جامبيني بجامعة الجمهورية بمونتيفيديو أوروجواي، فقد طبقا نظرية (الجاذبية الكمية الحلقيةloop quantum gravity) على الثقوب السوداء، ووجدا أن الجاذبية تزداد كلما اتجهنا إلى مركز الثقب الأسود، ولكنها تتقلص وترمي أي شيء يدخله إلى مكان آخر بالكون. أضافت تلك النتائج النظرية بعض المصداقية لاحتمالية أن تكون الثقوب السوداء بمثابة بوابة تقود إلى مكان آخر. في هذه الدراسة، لا وجود لنقطة التفرد، ولا وجود لذلك الحاجز الذي لا يمكن اختراقه ويسحق كل ما يقابله، ويعني ذلك أيضاً أن المعلومات لا تختفي.
تصور فني عن الاضطرابات المدية tidal disruption event التي قد تحدث عندما يمر نجم بالقرب من ثقب أسود هائل.
ربما لا تؤدي الثقوب السوداء إلى أي مكان
يعتقد الفيزيائيون أحمد المهيري ودونالد مارولف وجوزيف بولشينسكي وجيمس سولي، أن هوكينج ربما كان محقًا، وقد عملوا على نظرية تسمى جدار الحماية AMPS firewall، أو فرضية جدار حماية الثقوب السوداء. وفقًا لحساباتهم، يمكن عمليًا -في إطار ميكانيكا الكم- تحويل أفق الحدث إلى جدار ناري عملاق يحرق أي شيء يلامسه في الحال، وبالتالي لاتؤدي الثقوب السوداء إلى أي مكان؛ لأنه لا شيء يمكنه عبور ذلك الجدار إلى الداخل.
إلا أن ذلك يتعارض مع نظرية النسبية العامة لأينشتاين؛ لأن سقوط أي كائن داخل الثقب الأسود سيكون سقوطًا حرًا، وبالتالي لن يشعر بأي مشقة خلال عبوره أفق الحدث، بناءً على مبدأ التكافؤ the equivalence principle، ولن يشعر بآثار الجاذبية الهائلة، إنما يتبع قوانين الفيزياء الموجودة في أي مكان آخر بالكون. ولكن حتى إذا لم يتعارض مع مبدأ أينشتاين، فإنها تناقض نظرية الحقل الكمي quantum field theory، وتقترح أن المعلومات يمكن فقدها.
ثقب أسود من الاحتمالات
في عام 2014، نشر هوكينج دراسة أخرى تجنب فيها وجود أفق الحدث (بمعنى أن شيئًا لن يحترق)، واقترح بدلًا من ذلك أن انهيار الجاذبية سينتج أفقًا ظاهرًا apparent horizon.
يمكن لهذا الأفق الظاهر أن يعلق أشعة الضوء محاولًا التحرك بعيدًا عن قلب الثقب الأسود، ويستمر ذلك لفترة من الزمن. وفقًا لطرح هوكينج في دراسته الجديدة، إذ يحتفظ الأفق الظاهر مؤقتًا بالمواد والطاقة قبل إطلاقها لاحقًا. ويلائم ذلك التفسير نظرية الكم التي تنص على أنه لا يمكن فقد المعلومات. إذا ثبتت صحة ذلك الطرح، قد يعني أن الأشياء يمكنها الهرب من الثقب الأسود.
تمادى هوكينج إلى حد القول إن الثقوب السوداء قد لا تكون موجودة، أو كما كتب: «يجب أن يعاد تعريف الثقوب السوداء حالات مقيدة متباينة الثبات من حقل الجاذبية». لن تكون هنالك نقطة تفرد، وحين يتحرك الحقل الظاهر إلى الداخل بسبب الجاذبية، لن يصل إلى المركز أبدًا، وسيندمج داخل الكتلة الكثيفة للثقب الأسود.
لكن الأشياء المنبعثة من الثقب الأسود لن تكون هي نفسها المعلومات التي ابتلعها، لذا يستحيل معرفة ما دخل إلى الثقب الأسود من خلال النظر إلى ما سيخرج منه.
شيء واحد مؤكد، أن هذا اللغز سوف يستغرق وقتًا طويلًا لحله. اقترح روفيلي وفرانسيسكا فيدوتو مؤخرًا فكرة أن بقايا الثقوب السوداء المتبخرة قد تكون إحدى مكونات المادة المظلمة، وأصدر هوكينج عام 2018 ورقة بحثية حول الثقوب السوداء والشعر الناعم black holes and soft hair التي تصف كيف تُترك الجسيمات عديمة الطاقة حول نقطة اللا عودة (أفق الحدث)، أي لا تُفقَد المعلومات بل يُحتفظ بها.
عارض هذا نظرية افتقار الشعر the no-hair theorem التي عبر عنها الفيزيائي جون أرشيباليد ويلر Wheeler التي تعتمد على أساس عدم قدرة المراقب على التمييز بين اثنين من الثقوب السوداء، لأنه لا تُحفظ أي شحنات زائفة خاصة بطبيعة الجسيمات. أثارت تلك الفكرة جدلًا بين العلماء، ولكن هناك المزيد من الأفكار التي يجب التطرق لها قبل أن نعرف إلى أين تؤدي الثقوب السوداء، هذا إذا تمكنا من الوصول لأحدها والقفز عبره.
المصدر
إذا سافرت عبر ثقب أسود، إلى أين ستذهب؟ حسنًا، أنت الآن على وشك القفز إلى ثقب أسود، إذا افترضنا أنك ستنجو رغم كل شيء، ما الذي يمكن أن ينتظرك هناك؟ وإلى أين سينتهي بك المطاف؟ وما الحكايات المشوقة التي يمكن أن تسردها لنا إذا نجحت في العودة؟ يجيب على كل هذه التساؤلات البروفيسور ريتشارد ماسي Richard Massey -الباحث بالجمعية الملكية بمعهد علوم الكونيات الحاسوبية بجامعة دورهام- بإجابة بسيطة: «من يدري؟». يدرك ماسي تمام الإدراك أن أسرار الثقوب السوداء في غاية العمق.
حسبما قال: «السقوط في أفق الحدث: هو حرفيًا المرور إلى ما وراء حجاب، فبمجرد أن يسقط شخص مارًا به، لا يمكنه إرسال أي شيء إلى خارجه، لأنه سيُمزَّق إلى أجزاء بواسطة الجاذبية الهائلة، لذلك أشك في أن أي شخص يسقط خلال ثقب أسود قد ينتهي به الحال في أي مكان».
تلك إجابة مخيبة للآمال ومؤلمة، إلا أنها متوقَعة. منذ أن تنبأت نظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين بوجود الثقوب السوداء من خلال ربط الزمكان space-time بالجاذبية، أصبح من المعروف أن الثقب الأسود ينشأ نتيجة موت نجم ذي كتلة ضخمة، ينتج عنه نواة صغيرة كثيفة جدًا.
إذا افترضنا أن كتلة تلك النواة المتبقية من النجم أكبر من ثلاثة أضعاف كتلة الشمس تقريبًا، ستكون جاذبيتها قوية لدرجة أن تنهار على نفسها في نقطة واحدة هي (نقطة التفرد singularity)، وهو المركز ذو الكثافة اللا نهائية للثقب الأسود.
لدى هذا الثقب الأسود غير المألوف جاذبية هائلة لا يمكن لأي شيء الإفلات منها حتى الضوء. لذا، إذا وجدت نفسك في أفق الحدث، فلن يمكنك الهرب. (أفق الحدث event horizon هو النقطة التي لا يمكن للضوء أو المادة أن يتخطياها إلا في اتجاه الدخول، وفقًا لما اقترحه العالم الألماني كارل شوارزشيلد Karl Schwarzschild).
وفقًا لما قاله ماسي، ستقلص قوى الشد جسدك إلى خيوط من الذرات، أو ما يعرف (بتأثير المعكرونية spaghettification)، وينتهي الأمر بانسحاقها في نقطة التفرد. لذلك فإن فكرة العبور إلى مكان آخر هي في واقع الأمر خيالية جدًا.
(Image credit: Karl Tate, SPACE.com contributor
ما هي الثقوب الدودية؟
درس العلماء على مدار سنوات إمكانية أن تكون الثقوب السوداء هي ثقوب دودية wormholes تؤدي إلى مجرات أخرى، أو -كما اقترح بعضهم- إلى أكوان أخرى.
ظلت تلك الفكرة سائدة لبعض الوقت، نتيجة لتعاون آينشتاين Einstein مع ناثان روزن Rosen عام 1935 في وضع نظرية الجسور التي تربط بين نقطتين مختلفتين في الزمكان، وانتعشت مرة أخرى في الثمانينيات عندما ناقش الفيزيائي كيب ثورن Thorne -أحد الخبراء البارزين في تطبيقات الفيزياء الفلكية لنظرية النسبية العامة- إمكانية انتقال الأجسام المادية عبرها.
قد صرح ماسي بأن قراءة كتاب ثورن عن الثقوب الدودية كان أول شيء يثير حماسه تجاه الفيزياء عندما كان طفلًا، ولكنه يعتقد أن من غير المحتمل وجود مثل تلك الثقوب في الحقيقة.
كتب ثورن -الذي استعان بخبراته فريق إنتاج الفيلم الهوليودي Interstellar-: «لا نرى في كوننا أجساماً يمكن أن تصبح ثقوباً دودية يومًا ما» (كتاب: علم ما بين النجوم Science of interstellar، نورتون وآخرون – 2014). صرح لموقع space.com بأن الرحلات عبر تلك الأنفاق النظرية ستبقى على الأرجح نوعًا من الخيال العلمي، فلا يوجد دليل على كون الثقوب السوداء قد تسمح بمثل هذا الانتقال.
لكن المشكلة هي أننا لا يمكننا الاقتراب لنرى بأنفسنا، إضاقةً إلى ذلك لا يمكننا تصوير أي شيء يحدث داخل الثقب الأسود؛ لأن الضوء لا يمكنه الفرار من الجاذبية المهولة، ولذلك لن تسجل الكاميرات أي شيء. تفترض النظرية أن أي شيء يتجاوز أفق الحدث، ببساطة يُضاف إلى الثقب الأسود، ونظرًا لتشوه الزمن بالقرب من الثقب الأسود، سيحدث الأمر ببطء شديد، لذلك فلن تكون الإجابات متوفرة على المدى القريب.
يقول دوغلاس فينكبينر Douglas Finkbeiner أستاذ الفيزياء الفلكية بجامعة هارفارد: «أعتقد أن ما يحدث في حقيقة الأمر هو انتهاء الزمن. لن يرى المراقب البعيد صديقه رائد الفضاء وهو يسقط في الثقب الأسود، فقط سيراه يزداد احمرارًا وخفوتًا كلما اقترب من أفق الحدث (بسبب ظاهرة الإزاحة الحمراء الناتجة عن الجاذبية)، أما الصديق فسيسقط مباشرة إلى ما وراء الأبدية، أيًا كان ما يعنيه ذلك».
تصور فني للثقوب الدودية، والتي قد تؤدي إلى كون آخر إن كانت موجودة بالفعل، ولكن لا يوجد دليل فعلي على وجودها، أو على أن الثقب الأسود سيكون بمثابة ثقب دودي.
ربما يؤدي الثقب الأسود إلى ثقب أبيض
طرح عالم الكونيات الروسي إيغور نوفيكوف Novikov عام 1964 نظرية تبحث في ما إذا كانت الثقوب السوداء بالفعل تؤدي إلى مجرات أو أكوان أخرى، فيعني ذلك أن هناك ما يقابلها على الجانب الآخر، فهل تكون ثقوبًا بيضاء؟. اقترح نوفيكوف أن الثقب الأسود متصل بثقب أبيض موجود في الماضي. وعلى عكس الثقوب السوداء، تسمح الثقوب البيضاء للمادة والضوء بالخروج منها، لكن لا تسمح لهما بالدخول.
واصل العلماء استكشاف العلاقة المحتملة بين الثقوب السوداء والبيضاء. زعم الفيزيائيان كارلو روفيلي وهال هاجارد في دراسة نشرت لهما في مجلةPhysical Review عام 2014: «إن مقياسًا تقليديًا يحقق معادلات آينشتاين خارج حدود الزمكان المتناهي، حيث تنهار المادة في الثقوب السوداء، ثم تبزغ مجددًا من الثقوب البيضاء». بعبارة أخرى، كل المادة التي ابتلعتها الثقوب السوداء يمكن أن تلفظها مجددًا، وتصبح الثقوب السوداء ثقوبًا بيضاء عند موتها.
بعيدًا عن تدمير المعلومات التي تمتصها، سيتوقف انهيار الثقوب السوداء، وستختبر بدلًا من ذلك (ارتدادًا كميًا quantum bounce)، ما سيسمح للمعلومات بالهرب. وإذا كان الأمر كذلك، فسيلقي هذا الضوء على طرح العالم ستيفن هوكينج Hawking -عالم الكونيات والفيزياء النظرية سابقًا بجامعة كامبريدج- الذي اكتشف في سبعينيات القرن الماضي احتمالية أن تبعث الثقوب السوداء جسيمات وإشعاعًا حراريًا، نتيجة لظاهرة تقلبات الكم quantum fluctuations.
قال فينكبينر: «لقد أخبرنا ستيفن هوكينج أن الثقب الأسود لن يدوم إلى الأبد». وفقًا لهوكينج، سيؤدي الإشعاع الصادر من الثقب الأسود إلى فقدانه للطاقة، وبالتالي إلى تقلصه ثم اختفائه، كما هو موضح في بحثه الذي نشر عام 1974 في مجلة Physical Review. حسب هذا الزعم، سيكون الإشعاع المنبعث عشوائيًا لا يحتوي على أي معلومات عما سقط بداخله، وستمحو الثقوب السوداء عند انفجارها الكثير من المعلومات.
يعني ذلك أن طرح هوكينج يناقض نظرية الكم التي تنص على أن المعلومات لا يمكن أن تُدمر. توضح الفيزياء أن إيجاد المعلومات سيصبح أكثر صعوبة؛ لأنه في حالة فقدانها من المستحيل معرفة الماضي أو المستقبل.
أدت فكرة هوكينج إلى مفارقة معلومات الثقب الأسود black hole information paradox التي حيرت العلماء لفترة طويلة، وقال البعض حينها إن هوكينج ببساطة مخطئ، وقد اعترف هوكنج نفسه بخطئه عام 2004 خلال أحد المؤتمرات العلمية في دبلن.
يدفعنا ذلك إلى العودة إلى المفهوم السابق حيث تحتفظ الثقوب السوداء بالمعلومات وتلقي بها خارجًا عبر الثقوب البيضاء. وفقًا لدراسة نشرت عام 2013، لكل من خورخي بولين من جامعة ولاية لويزيانا، ورودولفو جامبيني بجامعة الجمهورية بمونتيفيديو أوروجواي، فقد طبقا نظرية (الجاذبية الكمية الحلقيةloop quantum gravity) على الثقوب السوداء، ووجدا أن الجاذبية تزداد كلما اتجهنا إلى مركز الثقب الأسود، ولكنها تتقلص وترمي أي شيء يدخله إلى مكان آخر بالكون. أضافت تلك النتائج النظرية بعض المصداقية لاحتمالية أن تكون الثقوب السوداء بمثابة بوابة تقود إلى مكان آخر. في هذه الدراسة، لا وجود لنقطة التفرد، ولا وجود لذلك الحاجز الذي لا يمكن اختراقه ويسحق كل ما يقابله، ويعني ذلك أيضاً أن المعلومات لا تختفي.
تصور فني عن الاضطرابات المدية tidal disruption event التي قد تحدث عندما يمر نجم بالقرب من ثقب أسود هائل.
ربما لا تؤدي الثقوب السوداء إلى أي مكان
يعتقد الفيزيائيون أحمد المهيري ودونالد مارولف وجوزيف بولشينسكي وجيمس سولي، أن هوكينج ربما كان محقًا، وقد عملوا على نظرية تسمى جدار الحماية AMPS firewall، أو فرضية جدار حماية الثقوب السوداء. وفقًا لحساباتهم، يمكن عمليًا -في إطار ميكانيكا الكم- تحويل أفق الحدث إلى جدار ناري عملاق يحرق أي شيء يلامسه في الحال، وبالتالي لاتؤدي الثقوب السوداء إلى أي مكان؛ لأنه لا شيء يمكنه عبور ذلك الجدار إلى الداخل.
إلا أن ذلك يتعارض مع نظرية النسبية العامة لأينشتاين؛ لأن سقوط أي كائن داخل الثقب الأسود سيكون سقوطًا حرًا، وبالتالي لن يشعر بأي مشقة خلال عبوره أفق الحدث، بناءً على مبدأ التكافؤ the equivalence principle، ولن يشعر بآثار الجاذبية الهائلة، إنما يتبع قوانين الفيزياء الموجودة في أي مكان آخر بالكون. ولكن حتى إذا لم يتعارض مع مبدأ أينشتاين، فإنها تناقض نظرية الحقل الكمي quantum field theory، وتقترح أن المعلومات يمكن فقدها.
ثقب أسود من الاحتمالات
في عام 2014، نشر هوكينج دراسة أخرى تجنب فيها وجود أفق الحدث (بمعنى أن شيئًا لن يحترق)، واقترح بدلًا من ذلك أن انهيار الجاذبية سينتج أفقًا ظاهرًا apparent horizon.
يمكن لهذا الأفق الظاهر أن يعلق أشعة الضوء محاولًا التحرك بعيدًا عن قلب الثقب الأسود، ويستمر ذلك لفترة من الزمن. وفقًا لطرح هوكينج في دراسته الجديدة، إذ يحتفظ الأفق الظاهر مؤقتًا بالمواد والطاقة قبل إطلاقها لاحقًا. ويلائم ذلك التفسير نظرية الكم التي تنص على أنه لا يمكن فقد المعلومات. إذا ثبتت صحة ذلك الطرح، قد يعني أن الأشياء يمكنها الهرب من الثقب الأسود.
تمادى هوكينج إلى حد القول إن الثقوب السوداء قد لا تكون موجودة، أو كما كتب: «يجب أن يعاد تعريف الثقوب السوداء حالات مقيدة متباينة الثبات من حقل الجاذبية». لن تكون هنالك نقطة تفرد، وحين يتحرك الحقل الظاهر إلى الداخل بسبب الجاذبية، لن يصل إلى المركز أبدًا، وسيندمج داخل الكتلة الكثيفة للثقب الأسود.
لكن الأشياء المنبعثة من الثقب الأسود لن تكون هي نفسها المعلومات التي ابتلعها، لذا يستحيل معرفة ما دخل إلى الثقب الأسود من خلال النظر إلى ما سيخرج منه.
شيء واحد مؤكد، أن هذا اللغز سوف يستغرق وقتًا طويلًا لحله. اقترح روفيلي وفرانسيسكا فيدوتو مؤخرًا فكرة أن بقايا الثقوب السوداء المتبخرة قد تكون إحدى مكونات المادة المظلمة، وأصدر هوكينج عام 2018 ورقة بحثية حول الثقوب السوداء والشعر الناعم black holes and soft hair التي تصف كيف تُترك الجسيمات عديمة الطاقة حول نقطة اللا عودة (أفق الحدث)، أي لا تُفقَد المعلومات بل يُحتفظ بها.
عارض هذا نظرية افتقار الشعر the no-hair theorem التي عبر عنها الفيزيائي جون أرشيباليد ويلر Wheeler التي تعتمد على أساس عدم قدرة المراقب على التمييز بين اثنين من الثقوب السوداء، لأنه لا تُحفظ أي شحنات زائفة خاصة بطبيعة الجسيمات. أثارت تلك الفكرة جدلًا بين العلماء، ولكن هناك المزيد من الأفكار التي يجب التطرق لها قبل أن نعرف إلى أين تؤدي الثقوب السوداء، هذا إذا تمكنا من الوصول لأحدها والقفز عبره.
المصدر