مائة عام على اكتشاف القطب الجنوبي
في 14 ديسمبر (كانون الأول) عام 1911، أي منذ قرن مضى، خاض رولد أمندسون النرويجي مع رفاقه غمار المجهول وساروا وسط الجو العاصف والصقيع للوصول إلى قاع الكرة الأرضية، القطب الجنوبي. لم يكن هناك أي أثر لخصمهما البريطاني، روبرت فالكون سكوت، ولا علم بريطانيا يسخر منهم ولا نصب تذكاري حجري. لقد فاز النرويجيون بالسباق.
لقد كان أمندسون وسكوت يقودان بعثتين استكشافيتين للقطب الجنوبي الذي تبلغ مساحته نصف مساحة الولايات المتحدة تقريبا ولا يضاهيه مكان على سطح الكرة الأرضية. كانت القوة الدافعة للاثنين هي الشهرة من خلال الحصول على بعض المغانم الجغرافية التي لم يكتشفها أحد بعد. وكان الاثنان مختلفين في المزاج ونهج الاكتشاف الذي ربما كان من العوامل الحاسمة في نجاح أحدهما وفشل الآخر.
قضى أمندسون الجاد الملتزم بالطريقة المنهجية شتاء مع بعثة استكشافية في القطب الجنوبي ونجح في المرور للمرة الأولى عبر الممر الشمالي الغربي، شمال كندا، وكذلك تعلم كيفية التحضير للعمل في أكثر بقاع العالم برودة.
لقد تعلم بالتجربة أن الكلاب المدربة التي تجر الزلاجات لا يمكن الاستغناء عنها. لقد كانت وجهته التالية هي القطب الشمالي، لكن عندما سمع بإعلان المجموعتين الأخريين لنصرهما، كتب أمندسون: «لم يبق لي سوى المحاولة وحل اللغز الأخير الكبير وهو القطب الجنوبي».
وكان سكوت ضابطا في البحرية ورجلا لطيفا قاد البعثة الاستكشافية التي لم تتمكن من استكمال مهمتها في القطب الجنوبي بسبب سوء التخطيط والتنفيذ. لقد كانت نظرته للاستكشاف رومانسية، حيث كان يراه مغامرة لإثبات الذات ونوعا من التجربة في الجليد. وكان يعتقد أن الاستعانة بالكلاب في جر كل الزلاجات ليست مفيدة، حيث كتب: «إن مواجهة المصاعب والأخطار بدونهم أفضل».
وفعل فريق سكوت هذا، حيث زودوا الزلاجات بمحركات وسرعان ما بدأت تتحرك بسرعة كبيرة وسط الجليد باتجاه الهضبة القطبية العليا.
عندما كان رجال أمندسون على بعد أسبوع من معسكرهم في خليج الحيتان لإكمال الرحلة التي طولها ألفا ميل، وصل الفريق البريطاني المنهك إلى القطب الجنوبي في 17 يناير (كانون الثاني) عام 1912، متأخرا خمسة أسابيع. كم كان محبطا أن يروا العلم النرويجي يرفرف في الهواء، وكتب سكوت في مذكراته: «يا إلهي! إنه مكان موحش، فكم هو محبط أن نبذل هذا الجهد للوصل إليه ولا يكون لنا سبق اكتشافه!».
وتحول الإحباط إلى مأساة، حيث هلك سكوت وأفراد فريقه الأربعة بسبب التعرض لعاصفة ثلجية عنيفة لمدة تسعة أيام والجوع والإنهاك نتيجة جر الزلاجات في طريق عودتهم في نهاية مارس (آذار). ولم يعثر على أكثر الجثث حتى نوفمبر (تشرين الثاني) في آخر معسكر مكثوا فيه ووجدوا مذكرات وملاحظات ميدانية وعينات صخور ربما ساروا مسافات كبيرة لجمعها. ربما يكون سكوت قد خسر السباق إلى القطب الجنوبي، لكنه سار بموته مثار الأحاديث في القرن الماضي باعتباره بطلا أسطوريا شجاعا وفريدا من نوعه.
لقد كان زمن أمندسون وسكوت هو عصر بطولات اكتشافات القطب الجنوبي. وكان المغامرون منجذبين إلى الجليد، حيث كان متسلق الجبال البريطاني جورج مالوري يقول عن جبل إفرست: «إنه تحد جديد». مع ذلك دفعت روح التنافس ذاتها الأفراد والدول نحو تحقيق السبق في الاكتشافات العلمية، كما يوضح إدوارد لارسون، أستاذ التاريخ في جامعة بيبردين ومؤلف كتاب «إمبراطورية الجليد: سكوت وشاكلتون وعصر بطولات علم القطب الجنوبي» في عدد أول ديسمبر من دورية «نيتشر». في عام 1900 أشار لارسون إلى أن البريطانيين، وبالتحديد الفرق التي كانت تحت قيادة إرنست شاكلتون وسكوت والعلماء الألمان، قاموا بقياس حركة الكتل الجليدية وحددوا الساحل والجزء الداخلي على الخريطة. وعرفوا من خلال رواسب قاع المحيط والنتوءات الصخرية أن القطب الجنوبي قارة حقا، حيث توجد أرض تحت طبقة الجليد السميكة، على عكس القطب الشمالي، حيث تغطي طبقة الجليد الأرفع مساحة شاسعة من البحر. واكتشفوا من خلال الحفريات أن القطب الجنوبي كان أكثر دفئا في يوم من الأيام ومفعما بأشكال الحياة وهناك أدلة تشير إلى اتصاله في الماضي بقارات جنوبية أخرى. وفتح التقدم في الملاحة وكاسحات الجليد والوسائل التكنولوجية الأخرى بعد الحرب العالمية الثانية المجال لإجراء المزيد من الأبحاث العلمية في القطب الجنوبي. كانت الولايات المتحدة من ضمن عدة دول أقامت مقرات دائمة لها ونقاط إمداد وهيئات بحثية هناك وكذلك بنية تحتية لإتاحة الإقامة على مدار العام ومشاريع بحثية طموحة. ويعد القطب الجنوبي حاليا، بداية من الأجراف الساحلية الجليدية إلى الهضبة القطبية التي يبلغ ارتفاعها 10 آلاف قدم ومن سلاسل الجبال التي تغطيها الثلوج وحتى البحيرات البدائية المحبوسة تحت الجليد، من المباحث العالمية المتنوعة مثل الفيزياء الفلكية وعلم المناخ والجيوفيزياء وعلم المحيطات. وأصدرت الأكاديمية القومية للعلوم مؤخرا دراسة بعنوان «الفرص العلمية المستقبلية في القطب الجنوبي والمحيط الجنوبي» حيث طرحت أسئلة محورية ينبغي أن تكون محل بحث خلال الأعوام العشرة أو العشرين المقبلة. وركزت التوصيات الرئيسية للدراسة على البحث في دور القارة القطبية الجنوبية في التغير المناخي، ولم يتفاجأ علماء القارة.
وقال ريموند برادلي، مدير معهد «كلايمت سيستم» البحثي التابع لجامعة ماساتشوستس «لقد أصبحنا مدركين لأهمية القطبين الشمالي والجنوبي خلال السنوات الأخيرة كمؤشر للتغيرات التي يمكن أن تحدث على مستوى العالم». ويدرس ريموند القطب الشمالي ولم يكن يشارك بشكل مباشر في الدراسة الصادرة عن الأكاديمية. وأضاف ريموند: «هذه المناطق حساسة لارتفاع درجات الحرارة، حيث يؤدي ذلك إلى ذوبان الجليد الذي يغطي البحار والمناطق الجليدية. عندما ينحسر جليد البحر، تقل قدرة الأرض على عكس أشعة الشمس مما يؤدي إلى زيادة درجات الحرارة وتغييرات في المحيط ودورة الهواء».
ولفت روبين بيل، كبير الباحثين في مرصد «لامونت دورتي إيرث» التابع لجامعة كولومبيا، الذي شارك في الدراسة التي أجرتها الأكاديمية، الانتباه إلى استنتاج تقرير الأكاديمية وهو أن ارتفاع درجات الحرارة وذوبان الجليد في بعض أجزاء القارة القطبية «سوف يمكن العلماء من التنبؤ» بالمناخ في كل المناطق الأخرى.
وأوضح بيل قائلا: «القطب الجنوبي مهم لفهم نظام المناخ في العالم وعمل نماذج محددة للتنبؤ بالتغيرات في المستقبل».
وطلبت المؤسسة القومية للعلوم من الأكاديمية إعداد هذه التوصيات لتكون دليلا إرشاديا يساعد في اختيار المشاريع التي تحصل على المنح. وبلغ إنفاق هذه الهيئة الحكومية على مشاريع القطب الجنوبي 67.4 مليون دولار. منذ تقدم التصوير عن طريق القمر الصناعي في سبعينات القرن الماضي، جمعت وكالة «ناسا» للفضاء والإدارة القومية للمحيطات والجو معلومات جذبت الانتباه إلى تأثير القارة القطبية على التغير المناخي.
وقال سكوت بورغ من المؤسسة القومية الأميركية للعلوم، قسم علوم القطب الجنوبي، إن المعلومات الجديدة تسلط الضوء على بحث «نعتقد أنه سيكون في غاية الأهمية على الأقل خلال السنوات الخمس المقبلة»، بحيث إذا قررت الحكومات اتخاذ إجراءات لمواجهة الاحتباس الحراري، فسوف تتوافر أفضل المعلومات العلمية التي تمكنهم من اتخاذ القرارات السليمة. وباتت التغيرات في طبقة الجليد التي تغطي نحو 97.6 في المائة من القارة موضوع بحث جديد بناء على توصيات الأكاديمية. وسيسافر فريق دولي من الباحثين بتمويل من المؤسسة القومية للعلوم ووكالة «ناسا» بمروحية خلال الشهر الحالي إلى الجرف الجليدي لجزيرة باين. ويقول بورغ: «إن الجليد بدأ يتحرك بسرعة كبيرة مما يدفع بالمزيد من الجليد نحو المحيط وهو ما يمكن أن يؤثر كثيرا على ارتفاع مستوى البحر في العالم خلال القرن المقبل». سوف يستخدم العلماء معدات الاستشعار عن بعد للتحقق من وجود تجويف أسفل الجرف الجليدي حيث يتجاوز الأرض ممتدا إلى المحيط. إنهم يأملون في تحديد كيف يمكن لمياه المحيط الدافئة نسبيا أن تصل إلى هذا التجويف وتضعف الجزء السفلي من الجليد مما يؤدي إلى ذوبان أكثر من 19 ميلا مكعبا من الجليد في البحر سنويا.
يقوم هذا البحث على أنشطة بدأت ببرنامج عام القطب الدولي (2007 - 2009) الذي ساعد على ظهور أفكار ومشاريع جديدة في علوم القطب الجنوبي. على سبيل المثال يحقق فريق من العلماء من سبع دول في لغز الجبال الجليدية التي تقع على بعد ميلين أسفل طبقة الجليد في شرق القطب الجنوبي. لقد استخدموا طائرة مزودة بجهاز رادار يستطيع اختراق الجليد وأجهزة لقياس الجاذبية والمغناطيسية لمعرفة كيف يمكن لسلسلة جبال أكبر من جبال الألب تكونت في ذلك المكان.. في تقرير الشهر الماضي، استنتج العلماء أن الجبال ما هي إلا بقايا اصطدام عدة قارات ببعضها البعض منذ مليارات السنين. وتمتد آثارها من القطب الجنوبي إلى الهند. وقال بيل من جامعة كولومبيا، وهو من أحد العلماء البارزين في المشروع، إن الخطوة المقبلة ستكون السير في الجليد للحصول على عينات من تلك الجبال.
ما زال لدى العلماء الكثير ليتعلموه من القطب الجنوبي وعنه، فضلا عن المعرفة بتاريخ الأرض. وأشار تقرير الأكاديمية إلى أن الفقمات والحيتان وطيور البطريق التي يعد القطب الجنوبي هو موطنها الأصلي تطورت فسيولوجيا لتتكيف مع البيئة ويمثل هذا بداية الخيط الذي يؤدي إلى فهم سبب إصابة الإنسان بالكثير من الأمراض مثل الأزمة القلبية والجلطة وانخفاض الضغط وطرق الوقاية منها.
ظل الروس يسيرون لسنوات وسط الجليد إلى بحيرة فوستوك التي تعد أكبر من 140 بحيرة جليدية أخرى في القطب الجنوبي. ربما يحققون إنجازا العام المقبل يتمثل في جمع عينة من الماء الذي يفترض أنه مشبع بالأكسجين. إذا كان هناك حياة في الماء، فيبدو أنها تطورت في الظلام البارد وتحت ضغط مرتفع استمر لملايين السنوات. قد يدعم أي دليل على وجود حياة في بحيرة فوستوك احتمال وجود حياة على قمر «المشترى» السادس أو قمر «زحل» السادس الذي يوجد أسفل البحار الجليدية به ماء سائل.
وأكدت الأكاديمية كذلك على قيمة القطب الجنوبي كمكان لا يضاهى لمراقبة النظام الشمسي والعالم. في ذلك الجو الجاف في محطة أمندسون وسكوت الجنوبية، يعد وضوح الضوء حلما من أحلام علماء الفلك. وتوجد هناك عدة أنواع من التليسكوبات لرصد بعض الأحداث التي تحدث في الكون والبحث عن حلول لألغاز طبيعة المادة السوداء والطاقة السوداء التي يفترض أنها تمثل 95 في المائة من كل شيء في الكون. وهناك تليسكوبات أخرى ترصد الانفجارات الشمسية لتكون بمثابة جهاز إنذار للجو العاصف الذي يهدد الاتصالات والأقمار الاصطناعية السابحة في الفضاء.
قضى أمندسون ثلاثة أيام إضافية قبل مغادرة القطب الجنوبي، وأراد هو ورجاله هيلمر هانسن، وسيفر هاسيل، وأوسكار ويستينغ، وأولاف بجلاند الذي التقط الصورة الكلاسيكية للأربعة الآخرين في القطب، أن يتأكدوا من وصولهم إلى القطب الجنوبي حقا. وزعم الأميركي فريدريك كوك عام 1908 ومن بعده الأميركي الآخر روبرت بيري، بعد ذلك بعام، الوصول إلى القطب الشمالي، لكن الأدلة التي قدماها كانت قابلة للتفنيد. لم يدع أمندسون الحريص والذي يتبع طريقة بحث منهجية، مجالا للشك في ما توصل إليه.
نشرت لين كوكس، المؤلفة والسباحة التي تفضل السباحة في المياه المتجمدة، مؤخرا ما يشبه سيرة أمندسون، وكذلك المشرف عليه فريدجتوف نانسين، بعنوان «الجنوب مع الشمس: رولد أمندسون.. اكتشافاته في القطب الجنوبي ورحلة الاكتشاف». وتعتقد لين أن ما فعله أمندسون كان رائعا، حيث قضى هو ورجاله ثلاثة أيام في التزلج على الجليد لأيام في كل الاتجاهات ومعهم آلة قياس ارتفاع الأجرام السماوية لرصد الشمس في مختلف مواقعها وفي مختلف الأوقات للتأكد من أنها قريبة من 90 درجة باتجاه الجنوب. واعتقدت أن أحدها على الأقل سيعبر ويسجل موقعها بالضبط. أقام الفريق قبل مغادرته خيمة سوداء إلى أقرب حد ممكن من القطب الجنوبي. في تلك الخيمة ترك أمندسون معدات احتياطية قد يحتاجها سكوت وخطاب مرسل إلى هاكون ملك النرويج. لقد كان هذا بمثابة إعلانه للنصر. طلب من سكوت في ورقة أخرى، توصيل الخطاب إلى الملك في حال أخفق الفريق النرويجي في البقاء على قيد الحياة والعودة.
الأمران اللذان أنجزهما أمندسون خلال رحلته إلى القطب الجنوبي هما التأكد من موقعهم وتسجيل روايتهم. عاد أمندسون إلى قاعدته في 99 يوما، أي أقل من المدة المتوقعة بعشرة أيام مع 52 كلبا، لم يبق منهم على قيد الحياة سوى 11، حيث تغذوا على الكلاب الأخرى التي أنهكتها الرحلة. وكان أمندسون يواجه الموت، لذا كان حريصا على التأكد من معرفة العالم بنجاحه.
إذا كان سكوت تمكن من العودة حيا، بينما لم يتمكن فريق أمندسون، كان ليحظى بالمكانة التي حظي بها أمندسون. وكانت الأخبار لتصل إلى ملك النرويج بأن رعاياه هم أول من وصلوا إلى القطب الجنوبي.
في 14 ديسمبر (كانون الأول) عام 1911، أي منذ قرن مضى، خاض رولد أمندسون النرويجي مع رفاقه غمار المجهول وساروا وسط الجو العاصف والصقيع للوصول إلى قاع الكرة الأرضية، القطب الجنوبي. لم يكن هناك أي أثر لخصمهما البريطاني، روبرت فالكون سكوت، ولا علم بريطانيا يسخر منهم ولا نصب تذكاري حجري. لقد فاز النرويجيون بالسباق.
لقد كان أمندسون وسكوت يقودان بعثتين استكشافيتين للقطب الجنوبي الذي تبلغ مساحته نصف مساحة الولايات المتحدة تقريبا ولا يضاهيه مكان على سطح الكرة الأرضية. كانت القوة الدافعة للاثنين هي الشهرة من خلال الحصول على بعض المغانم الجغرافية التي لم يكتشفها أحد بعد. وكان الاثنان مختلفين في المزاج ونهج الاكتشاف الذي ربما كان من العوامل الحاسمة في نجاح أحدهما وفشل الآخر.
قضى أمندسون الجاد الملتزم بالطريقة المنهجية شتاء مع بعثة استكشافية في القطب الجنوبي ونجح في المرور للمرة الأولى عبر الممر الشمالي الغربي، شمال كندا، وكذلك تعلم كيفية التحضير للعمل في أكثر بقاع العالم برودة.
لقد تعلم بالتجربة أن الكلاب المدربة التي تجر الزلاجات لا يمكن الاستغناء عنها. لقد كانت وجهته التالية هي القطب الشمالي، لكن عندما سمع بإعلان المجموعتين الأخريين لنصرهما، كتب أمندسون: «لم يبق لي سوى المحاولة وحل اللغز الأخير الكبير وهو القطب الجنوبي».
وكان سكوت ضابطا في البحرية ورجلا لطيفا قاد البعثة الاستكشافية التي لم تتمكن من استكمال مهمتها في القطب الجنوبي بسبب سوء التخطيط والتنفيذ. لقد كانت نظرته للاستكشاف رومانسية، حيث كان يراه مغامرة لإثبات الذات ونوعا من التجربة في الجليد. وكان يعتقد أن الاستعانة بالكلاب في جر كل الزلاجات ليست مفيدة، حيث كتب: «إن مواجهة المصاعب والأخطار بدونهم أفضل».
وفعل فريق سكوت هذا، حيث زودوا الزلاجات بمحركات وسرعان ما بدأت تتحرك بسرعة كبيرة وسط الجليد باتجاه الهضبة القطبية العليا.
عندما كان رجال أمندسون على بعد أسبوع من معسكرهم في خليج الحيتان لإكمال الرحلة التي طولها ألفا ميل، وصل الفريق البريطاني المنهك إلى القطب الجنوبي في 17 يناير (كانون الثاني) عام 1912، متأخرا خمسة أسابيع. كم كان محبطا أن يروا العلم النرويجي يرفرف في الهواء، وكتب سكوت في مذكراته: «يا إلهي! إنه مكان موحش، فكم هو محبط أن نبذل هذا الجهد للوصل إليه ولا يكون لنا سبق اكتشافه!».
وتحول الإحباط إلى مأساة، حيث هلك سكوت وأفراد فريقه الأربعة بسبب التعرض لعاصفة ثلجية عنيفة لمدة تسعة أيام والجوع والإنهاك نتيجة جر الزلاجات في طريق عودتهم في نهاية مارس (آذار). ولم يعثر على أكثر الجثث حتى نوفمبر (تشرين الثاني) في آخر معسكر مكثوا فيه ووجدوا مذكرات وملاحظات ميدانية وعينات صخور ربما ساروا مسافات كبيرة لجمعها. ربما يكون سكوت قد خسر السباق إلى القطب الجنوبي، لكنه سار بموته مثار الأحاديث في القرن الماضي باعتباره بطلا أسطوريا شجاعا وفريدا من نوعه.
لقد كان زمن أمندسون وسكوت هو عصر بطولات اكتشافات القطب الجنوبي. وكان المغامرون منجذبين إلى الجليد، حيث كان متسلق الجبال البريطاني جورج مالوري يقول عن جبل إفرست: «إنه تحد جديد». مع ذلك دفعت روح التنافس ذاتها الأفراد والدول نحو تحقيق السبق في الاكتشافات العلمية، كما يوضح إدوارد لارسون، أستاذ التاريخ في جامعة بيبردين ومؤلف كتاب «إمبراطورية الجليد: سكوت وشاكلتون وعصر بطولات علم القطب الجنوبي» في عدد أول ديسمبر من دورية «نيتشر». في عام 1900 أشار لارسون إلى أن البريطانيين، وبالتحديد الفرق التي كانت تحت قيادة إرنست شاكلتون وسكوت والعلماء الألمان، قاموا بقياس حركة الكتل الجليدية وحددوا الساحل والجزء الداخلي على الخريطة. وعرفوا من خلال رواسب قاع المحيط والنتوءات الصخرية أن القطب الجنوبي قارة حقا، حيث توجد أرض تحت طبقة الجليد السميكة، على عكس القطب الشمالي، حيث تغطي طبقة الجليد الأرفع مساحة شاسعة من البحر. واكتشفوا من خلال الحفريات أن القطب الجنوبي كان أكثر دفئا في يوم من الأيام ومفعما بأشكال الحياة وهناك أدلة تشير إلى اتصاله في الماضي بقارات جنوبية أخرى. وفتح التقدم في الملاحة وكاسحات الجليد والوسائل التكنولوجية الأخرى بعد الحرب العالمية الثانية المجال لإجراء المزيد من الأبحاث العلمية في القطب الجنوبي. كانت الولايات المتحدة من ضمن عدة دول أقامت مقرات دائمة لها ونقاط إمداد وهيئات بحثية هناك وكذلك بنية تحتية لإتاحة الإقامة على مدار العام ومشاريع بحثية طموحة. ويعد القطب الجنوبي حاليا، بداية من الأجراف الساحلية الجليدية إلى الهضبة القطبية التي يبلغ ارتفاعها 10 آلاف قدم ومن سلاسل الجبال التي تغطيها الثلوج وحتى البحيرات البدائية المحبوسة تحت الجليد، من المباحث العالمية المتنوعة مثل الفيزياء الفلكية وعلم المناخ والجيوفيزياء وعلم المحيطات. وأصدرت الأكاديمية القومية للعلوم مؤخرا دراسة بعنوان «الفرص العلمية المستقبلية في القطب الجنوبي والمحيط الجنوبي» حيث طرحت أسئلة محورية ينبغي أن تكون محل بحث خلال الأعوام العشرة أو العشرين المقبلة. وركزت التوصيات الرئيسية للدراسة على البحث في دور القارة القطبية الجنوبية في التغير المناخي، ولم يتفاجأ علماء القارة.
وقال ريموند برادلي، مدير معهد «كلايمت سيستم» البحثي التابع لجامعة ماساتشوستس «لقد أصبحنا مدركين لأهمية القطبين الشمالي والجنوبي خلال السنوات الأخيرة كمؤشر للتغيرات التي يمكن أن تحدث على مستوى العالم». ويدرس ريموند القطب الشمالي ولم يكن يشارك بشكل مباشر في الدراسة الصادرة عن الأكاديمية. وأضاف ريموند: «هذه المناطق حساسة لارتفاع درجات الحرارة، حيث يؤدي ذلك إلى ذوبان الجليد الذي يغطي البحار والمناطق الجليدية. عندما ينحسر جليد البحر، تقل قدرة الأرض على عكس أشعة الشمس مما يؤدي إلى زيادة درجات الحرارة وتغييرات في المحيط ودورة الهواء».
ولفت روبين بيل، كبير الباحثين في مرصد «لامونت دورتي إيرث» التابع لجامعة كولومبيا، الذي شارك في الدراسة التي أجرتها الأكاديمية، الانتباه إلى استنتاج تقرير الأكاديمية وهو أن ارتفاع درجات الحرارة وذوبان الجليد في بعض أجزاء القارة القطبية «سوف يمكن العلماء من التنبؤ» بالمناخ في كل المناطق الأخرى.
وأوضح بيل قائلا: «القطب الجنوبي مهم لفهم نظام المناخ في العالم وعمل نماذج محددة للتنبؤ بالتغيرات في المستقبل».
وطلبت المؤسسة القومية للعلوم من الأكاديمية إعداد هذه التوصيات لتكون دليلا إرشاديا يساعد في اختيار المشاريع التي تحصل على المنح. وبلغ إنفاق هذه الهيئة الحكومية على مشاريع القطب الجنوبي 67.4 مليون دولار. منذ تقدم التصوير عن طريق القمر الصناعي في سبعينات القرن الماضي، جمعت وكالة «ناسا» للفضاء والإدارة القومية للمحيطات والجو معلومات جذبت الانتباه إلى تأثير القارة القطبية على التغير المناخي.
وقال سكوت بورغ من المؤسسة القومية الأميركية للعلوم، قسم علوم القطب الجنوبي، إن المعلومات الجديدة تسلط الضوء على بحث «نعتقد أنه سيكون في غاية الأهمية على الأقل خلال السنوات الخمس المقبلة»، بحيث إذا قررت الحكومات اتخاذ إجراءات لمواجهة الاحتباس الحراري، فسوف تتوافر أفضل المعلومات العلمية التي تمكنهم من اتخاذ القرارات السليمة. وباتت التغيرات في طبقة الجليد التي تغطي نحو 97.6 في المائة من القارة موضوع بحث جديد بناء على توصيات الأكاديمية. وسيسافر فريق دولي من الباحثين بتمويل من المؤسسة القومية للعلوم ووكالة «ناسا» بمروحية خلال الشهر الحالي إلى الجرف الجليدي لجزيرة باين. ويقول بورغ: «إن الجليد بدأ يتحرك بسرعة كبيرة مما يدفع بالمزيد من الجليد نحو المحيط وهو ما يمكن أن يؤثر كثيرا على ارتفاع مستوى البحر في العالم خلال القرن المقبل». سوف يستخدم العلماء معدات الاستشعار عن بعد للتحقق من وجود تجويف أسفل الجرف الجليدي حيث يتجاوز الأرض ممتدا إلى المحيط. إنهم يأملون في تحديد كيف يمكن لمياه المحيط الدافئة نسبيا أن تصل إلى هذا التجويف وتضعف الجزء السفلي من الجليد مما يؤدي إلى ذوبان أكثر من 19 ميلا مكعبا من الجليد في البحر سنويا.
يقوم هذا البحث على أنشطة بدأت ببرنامج عام القطب الدولي (2007 - 2009) الذي ساعد على ظهور أفكار ومشاريع جديدة في علوم القطب الجنوبي. على سبيل المثال يحقق فريق من العلماء من سبع دول في لغز الجبال الجليدية التي تقع على بعد ميلين أسفل طبقة الجليد في شرق القطب الجنوبي. لقد استخدموا طائرة مزودة بجهاز رادار يستطيع اختراق الجليد وأجهزة لقياس الجاذبية والمغناطيسية لمعرفة كيف يمكن لسلسلة جبال أكبر من جبال الألب تكونت في ذلك المكان.. في تقرير الشهر الماضي، استنتج العلماء أن الجبال ما هي إلا بقايا اصطدام عدة قارات ببعضها البعض منذ مليارات السنين. وتمتد آثارها من القطب الجنوبي إلى الهند. وقال بيل من جامعة كولومبيا، وهو من أحد العلماء البارزين في المشروع، إن الخطوة المقبلة ستكون السير في الجليد للحصول على عينات من تلك الجبال.
ما زال لدى العلماء الكثير ليتعلموه من القطب الجنوبي وعنه، فضلا عن المعرفة بتاريخ الأرض. وأشار تقرير الأكاديمية إلى أن الفقمات والحيتان وطيور البطريق التي يعد القطب الجنوبي هو موطنها الأصلي تطورت فسيولوجيا لتتكيف مع البيئة ويمثل هذا بداية الخيط الذي يؤدي إلى فهم سبب إصابة الإنسان بالكثير من الأمراض مثل الأزمة القلبية والجلطة وانخفاض الضغط وطرق الوقاية منها.
ظل الروس يسيرون لسنوات وسط الجليد إلى بحيرة فوستوك التي تعد أكبر من 140 بحيرة جليدية أخرى في القطب الجنوبي. ربما يحققون إنجازا العام المقبل يتمثل في جمع عينة من الماء الذي يفترض أنه مشبع بالأكسجين. إذا كان هناك حياة في الماء، فيبدو أنها تطورت في الظلام البارد وتحت ضغط مرتفع استمر لملايين السنوات. قد يدعم أي دليل على وجود حياة في بحيرة فوستوك احتمال وجود حياة على قمر «المشترى» السادس أو قمر «زحل» السادس الذي يوجد أسفل البحار الجليدية به ماء سائل.
وأكدت الأكاديمية كذلك على قيمة القطب الجنوبي كمكان لا يضاهى لمراقبة النظام الشمسي والعالم. في ذلك الجو الجاف في محطة أمندسون وسكوت الجنوبية، يعد وضوح الضوء حلما من أحلام علماء الفلك. وتوجد هناك عدة أنواع من التليسكوبات لرصد بعض الأحداث التي تحدث في الكون والبحث عن حلول لألغاز طبيعة المادة السوداء والطاقة السوداء التي يفترض أنها تمثل 95 في المائة من كل شيء في الكون. وهناك تليسكوبات أخرى ترصد الانفجارات الشمسية لتكون بمثابة جهاز إنذار للجو العاصف الذي يهدد الاتصالات والأقمار الاصطناعية السابحة في الفضاء.
قضى أمندسون ثلاثة أيام إضافية قبل مغادرة القطب الجنوبي، وأراد هو ورجاله هيلمر هانسن، وسيفر هاسيل، وأوسكار ويستينغ، وأولاف بجلاند الذي التقط الصورة الكلاسيكية للأربعة الآخرين في القطب، أن يتأكدوا من وصولهم إلى القطب الجنوبي حقا. وزعم الأميركي فريدريك كوك عام 1908 ومن بعده الأميركي الآخر روبرت بيري، بعد ذلك بعام، الوصول إلى القطب الشمالي، لكن الأدلة التي قدماها كانت قابلة للتفنيد. لم يدع أمندسون الحريص والذي يتبع طريقة بحث منهجية، مجالا للشك في ما توصل إليه.
نشرت لين كوكس، المؤلفة والسباحة التي تفضل السباحة في المياه المتجمدة، مؤخرا ما يشبه سيرة أمندسون، وكذلك المشرف عليه فريدجتوف نانسين، بعنوان «الجنوب مع الشمس: رولد أمندسون.. اكتشافاته في القطب الجنوبي ورحلة الاكتشاف». وتعتقد لين أن ما فعله أمندسون كان رائعا، حيث قضى هو ورجاله ثلاثة أيام في التزلج على الجليد لأيام في كل الاتجاهات ومعهم آلة قياس ارتفاع الأجرام السماوية لرصد الشمس في مختلف مواقعها وفي مختلف الأوقات للتأكد من أنها قريبة من 90 درجة باتجاه الجنوب. واعتقدت أن أحدها على الأقل سيعبر ويسجل موقعها بالضبط. أقام الفريق قبل مغادرته خيمة سوداء إلى أقرب حد ممكن من القطب الجنوبي. في تلك الخيمة ترك أمندسون معدات احتياطية قد يحتاجها سكوت وخطاب مرسل إلى هاكون ملك النرويج. لقد كان هذا بمثابة إعلانه للنصر. طلب من سكوت في ورقة أخرى، توصيل الخطاب إلى الملك في حال أخفق الفريق النرويجي في البقاء على قيد الحياة والعودة.
الأمران اللذان أنجزهما أمندسون خلال رحلته إلى القطب الجنوبي هما التأكد من موقعهم وتسجيل روايتهم. عاد أمندسون إلى قاعدته في 99 يوما، أي أقل من المدة المتوقعة بعشرة أيام مع 52 كلبا، لم يبق منهم على قيد الحياة سوى 11، حيث تغذوا على الكلاب الأخرى التي أنهكتها الرحلة. وكان أمندسون يواجه الموت، لذا كان حريصا على التأكد من معرفة العالم بنجاحه.
إذا كان سكوت تمكن من العودة حيا، بينما لم يتمكن فريق أمندسون، كان ليحظى بالمكانة التي حظي بها أمندسون. وكانت الأخبار لتصل إلى ملك النرويج بأن رعاياه هم أول من وصلوا إلى القطب الجنوبي.