كنت دائماً أتساءل:
لماذا لا نلمس إلا القليل من التقدم العقلي مع كثرة ما ينشر ويطبع من كتب ومجلات،
ومع كثرة ما يذاع من برامج في الوسائل الإعلامية المختلفة؟
وقد تبين لي
أن ذلك يعود في أكثر الأمر إلى ما يستهدفه الناس من وراء القراءة والاستماع
والمشاهدة, كما يعود إلى طريقة القراءة وطريقة التلقي، وإلى كيفية التعامل مع ما
يتحصَّل من معرفة من وراء ذلك.
إذا تساءلنا: لماذا يقرأ الناس ولماذا يستمعون ويشاهدون البرامج الثقافية، فإننا
سنجد أن الناس في هذا الشأن ثلاثة أصناف:
صنف يقرأ من أجل التسلية والتخلص من
وطأة الإحساس بالفراغ. وهذا الصنف يشكل من المستوى العالمي ما يزيد على 60%
من القراء. ولا يخلو هذا النوع من القراءة من بعض الفائدة.
صنف ثانٍ يقرأ من أجل الاطلاع والحصول على بعض
المعلومات، كمن يبحث عن حكم فقهي لمسألة من المسائل، أو ينظر في المعجم
لمعرفة معنى كلمة من الكلمات. وفائدة هذا النوع من القراءة أكبر من فائدة النوع
الأول. وكثير من القراء لا يعرف للقراءة فائدة سوى ذلك.
صنف ثالث -وهو قليل جداً- يتطلع من وراء القراءة إلى تحسين
قاعدة الفهم لديه، والارتقاء بمستواه الذهني، وإحداث تعديل مستمر في رؤاه
وطروحاته ومنهجية تعامله مع الأحداث والأشياء، هذا الصنف من الناس هو الذي يستفيد
أحسن فائدة ممكنة من وراء القراءة ومن وراء الاستماع والمشاهدة أيضاً.
سيكون في إمكان كل واحد منا أن يكون من هذا الصنف إذا قام
بشيئين أساسيين:
الأول: أن يقرأ
الكتاب بطريقة جادة وواعية. والحقيقة أن القراء الممتازين لا يقرأون كتابًا كثيرة،
لكن حين يقرأون كتاباً فإنهم يقرأونه بطريقة جيدة.
القراءة الجيدة تعني نوعاً من
التفلية للكتاب، أو نوعاً من الحرث له. والقارئ الجيد يحاول معرفة الخلفية الثقافية
والانتماء الفكري للكاتب، كما يحاول تشكيل رؤية جيدة حول قيمة المصادر التي اعتمد
عليها في تأليفه. وهو إلى جانب هذا يطرح الكثير من الأسئلة حول معالجة الكاتب ومدى
وفائه بالغرض الذي أخرج الكتاب من أجله، كما أنه يحاول تكوين رؤية خاصة حول القضايا
التي عالجها الكتاب.
الثاني: التفكير في
مضمون الكتاب، وما يمكن أن يُحدثه من (خلخلة) في أنساقه الفكرية المختلفة. إن
الكتاب الجيد يتطلب من قارئه ثلث ساعة تفكير -على الأقل- بعد كل ساعة قراءة.
وسنرتكب خطأ فاحشاً إذا فكرنا من غير قراءة ومن غير معلومات. كما سنرتكب خطأ
مماثلاً له إذا استغنينا بالقراءة عن التفكير أو وجدنا في القراءة مهرباً من عناء التفكير.
ليكن تفكيرنا بعد كل قراءة في المحصلات النهائية التي يمكن أن تغير في
منهجية التفكير لدينا: هذه فكرة تدعم رؤيتنا للواقع. وتلك فكرة توجب عليَّ أن أكون
أكثر حذراً حيال التعميم في الحكم على الاتجاه الفلاني. وهذه فكرة ثالثة تُظهر
سطحيتي في رؤية القضية الفلانية وهكذا…
إن الذي
يملك معلومة أشبه بمن يملك قطعة ذهبية. أما الذي يملك منهجاً في رؤية العالم، فإنه
أشبه بمن يملك مفتاح منجم من الذهب. ولك أن تتخيل الفرق بينهما!
د/عبدالكريم بكار