في ذلك الصباح استفاقت القرية الصغيرة على حركة غير عادية وجوه غريبة وارتال من
السيارات تحمل حشودا بشرية مع تواجد امني كثيف كان الجميع يتجهون صوب منزل يقع على
تلة مرتفعة يحفه شريط من الاشجار، قبل ان تغرب الشمس كان اكبر ميادين القرية قد شهد
جلسة صلح في قضية قتل بلغت ديتها اكثر من (7) ملايين ريال اضافة الى اكثر من (50)
حالفا لليمين وثمة مشاهدات لمئات الريات البيضاء المرفوعة خلال الجلسة هذا
السيناريو وغيره من مشاهدات الصلح المصبوغة بالبهرجة والتكلف يجعل الرايات البيضاء
تنطلق من عقالها عن اسباب المبالغة في طلبات العفو.
في وسط هذا الزخم يغيب البعد
الانساني وطلب المغفرة والمثوبة من عملية العفو. خاصة وان جلسات الصلح تشهد في
الغالب الاعم طلب اصحاب الدم حليفة عدد من الحلاف قد يصل عددهم الى العشرات وقدوم
حشود كبيرة ترفع الرايات البيضاء علاوة على بعض المطالب المبالغ فيها والتكلف في
مثل هذه الجلسات التي من المفترض ان تكون بعيدة عن مثل هذه المظاهرة حيث اختفت في
الوقت الراهن جلسات الصلح القديمة التي كانت تنتهي بالصفح والتسامح والعفو لوجه
الله تعالى وحلت بدلا عنها مثل هذه المزايدات. وبين هذا وذاك كشف احد القضاة ان
العام الحالي وحده شهد عتق اكثر من عشر رقاب من حد السيف بمبلغ يتجاوز الـ 50 مليون
ريال.
مبالغة زائدة
وفي جلسة صلح اخرى لا تزال صورة التكلف والمبالغة ماثلة
للعيان حيث طلب والد القتيل 10 ملايين ريال دية للتنازل اضافة الى مطالبات اخرى
وبعد الحاح من اهل الخير قبل بمبلغ (5) ملايين ريال مع مجموعة من الطلبات
الاخرى.
وفي احدى المناطق الشمالية اشترط اهل القتيل (5) ملايين ريال لاعتاق
رقبة قاتل لم يتمكن ذووه من توفير المبلغ المطلوب فحتى وقت قريب كانت مجالس الصلح
تعتمد على تقريب وجهات النظر بين المتخاصمين للوصول الى حل يرضي الطرفين ويقوم بهذه
المهمة رجال عرف عنهم رجاحة العقل وسداد الرأي والحكمة وتقدير الامور بواقعية حيث
كان كل واحد منهم يطرح رؤيته بما حباه الله من وسائل الاقناع كسرعة البديهة ورحابة
الصدر وسعة الفكر ومخاطبة اطراف النزاع على قدر عقولهم ووفقا لمقتضى الحال مستندا
في ذلك على ثروته اللغوية وخبرته الطويلة ودرايته بفنون الحوار.
صيغة
الصلح
ومن اجل وضع صيغة مناسبة لقضايا الصلح فان شيوخ قبائل بني بجاد شهران سبق
وان وضعوا اتفاقا في قضايا الصلح.
ويقضي بأن على من يقبل الصلح ويرضى بوساطة
القبائل ومشايخهم ونوابهم واعيان تلك القبائل أن يوضح لهم ما وقع عليه ، ويترك
الحكم في القضية للشيوخ والنواب ، على أن يُحكم فيها بمعيار العدالة والمماثلة
ويُلزم المتضرر بالقبول والرضا بالحكم.
وتضمنت الاتفاقية أن من عرف عنه رغبته
الاحتكام لنفسه فعلى الشيوخ والنواب عدم التدخل في هذا الصلح أو المشاركة فيه لأنه
يعد صلحا جائرا ، والشرع كفيل بإعطائه كامل حقوقه من غريمه.
كما تم الاتفاق على
أنه في حالة قبول من يطلب باحتكام خصمه عليه ، ويوافق على شروط المصاب فإن ذلك
يعتبر شأنا خاصا بطرفي القضية ولا يصبح لوجهاء القبائل دور في ذلك.
ومن ينظر
بواقعية إلى هذه الخطوة سيجد أنها بناءة وتحقق الهدف من الصلح القبلي وسيرى أنها
وسيلة مثلى للقضاء على السلبيات والتجاوزات التي ظهرت أخيرا في أمور الصلح القبلي
عند المنازعات وخاصة ما يتعلق بجانب المغالاة والمزايدة والاشتراطات غير المنطقية
مقابل القبول بالصلح.
شروط تعجيزية
ويؤكد الواقع أن المبالغة والمزايدة
والشروط التعجيزية ستظل هي الوسيلة التي يحتكم إليها الأفراد في ظل سطوة العادات
وكثرة الذين نذروا أنفسهم لعمل الخير والإصلاح بين المتنازعين باذلين في سبيل تحقيق
هذا الهدف والبحث عن مرضاة الله الغالي والنفيس ،ولكن الأمر بحاجة إلى ترتيب
الأوراق وتنويع الوسائل لأن الرضوخ لطلبات من بأيديهم العفو سيتيح المجال للمزيد من
المبالغة بما يجعل الوصول إلى نتيجة مرضية لمجالس الصلح القبلية مستحيلة في
المستقبل خاصة أن ماكان يسمى «بالدية» أصبح نسيا منسيا بعد أن تمت مضاعفتها مئات
المرات.
ومن البديهي أن يكون هناك تنظيم واتفاقات تحكم هذه المجالس حتى تستمر في
السير على دروب الخير لإشاعة التسامح بين الناس ولكي لا يقف الذين نذروا أنفسهم
لهذه المهمة مكتوفي الأيدي بسبب العجز عن تحقيق مطالب أولياء الدم أو إقناعهم
للتخفيف منها.
ولأن مجالس الصلح المتسمة بالتكلف والمبالغة في المطالبات اصبحت
بمثابة مزايدات من قبل بعض اهل الدم ووسطاء الصلح فان القضية التي تخرج من ساحة
القصاص تتثمل في كيفية استئصال مثل هذه المظاهر وتكريس ثقافة التسامح هنا يدلي عدد
من اهل الرأي والمشائخ بآرائهم حول هذه القضية ويضعون النقاط فوق الحروف فيما يتعلق
بكافة تفاصيلها.
الدكتور عبدالله الفيفي عضو مجلس الشورى قال انه حينما تدخل
المتاجرة بكل شيء في حياتنا فلا يستغرب ان يتاجر بالدماء ويستدرك: صحيح ان اولياء
الدم اولى بتقرير ما يشفي صدورهم من قصاص او دية الا ان من جشع النفوس ان يكون
مقابل العفو عن القصاص المغالاة في الدية ذلك ان العفو في منطق الاسلام يتطلع مانحه
الى ان يكون اجره على الله وحيث يرى ان من الصعب فرض تحديد في مثل هذا الامر فان
الامر يتوقف على ضمائر اصحاب الدم وتعلقهم بما عند الله لا بما عند الناس فالاصل ان
الدية لجبر اهل الدم في فقدهم وطلب العوض الاعظم من ذلك من رب العزة والجلال لا
استثمار رقاب الناس في الاثراء مشددا على ضرورة دراسة الظاهرة من ذوي الاختصاص ووضع
حلول اجتماعية وشرعية لها وان يكون لمجتمع الفقة الاسلامي كلمة في هذا.
بينما
قال قاضي التمييز المتقاعد الشيخ احمد محمد معافا انه لابأس بدفع الملايين للصلح
ولا يعد هذا متاجرة بالدم لان من قتل المسلم ازهق نفسه وقطع نسله ويتم اولاده ورمل
نسائه فان مثل هذه الحالة لا تساوي اي قيمة مهما بذل لولي الدم من مال حيث لو قص من
الجاني لكان كذلك فيه ازهاق نفس وقطع نسل وما الى ذلك، وعلى هذا لا يكون الصلح
متاجرة اولياء القتيل بدم المقتول وانما هذا من باب الصلح فيأخذوا ما اصطلحوا عليه
ايا كان قدر الصلح.