لا
يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حال الصيام
إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله في كل حال من الكذب والظلم والعدوان
على الناس في دمائهم واموالهم واعراضهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه
وسلم: ‘من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه
وشرابه’. وفي حديث آخر: ‘ليس الصيام من الطعام والشراب، إنما الصيام من
اللغو والرفث’. قال بعض السلف: أهون الصيام ترك الشراب والطعام. وقال
جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار،
وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
إذا لم يكن في السمع مني تصاون
وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذا من صومي الجوع والظما
فإن قلت إني صمت يومي فما صمت
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ‘رب صائم خطه من صيامه الجوع والعطش، ورب
قائم خطه من قيامه السهر’ وسر هذا أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات
لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب
إلى الله تعالى بترك المباحات، كان بمنزلة من يترك الفرائض ويتقرب
بالنوافل، وان كان صومه مجزئا عند الجمهور بحيث لا يؤمر باعادته لأن العمل
إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه، دون ارتكاب ما نهي عنه لغير
معنى يختص به. هذا هو أصل جمهور العلماء.
وفي مسند الامام احمد. ان امرأتين صامتا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
فكادتا ان تموتا من العطش، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض، ثم
ذكرتا له فدعاهما فأمرهما أن تتقيآ، فقاءتا ملء قدح قيحا ودما وصديدا
ولحما عبيطا (اللحم العبيط: الطري غير النضيج. فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: ‘إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما
جلست إحداهما إلى الأخرى، فجعلتا تأكلان في لحوم الناس’. ولهذا المعنى ورد
في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشراب على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل
اموال الناس بالباطل. فان تحريم هذا عام في كل زمان ومكان، بخلاف الطعام
والشراب، فكان اشارة الى ان من امتثل امر الله في اجتناب الطعام والشراب
في نهار صومه، فليمتثل امره في اجتناب اكل الاموال بالباطل فإنه محرم بكل
حال.. لا يباح في وقت من الاوقات.