رحلة في ربوع أسواق صيدا القديمة
صور عن مدينة صيدا اللبنانية
بعض الأماكن تجيد مغازلة زوارها بخفر ومن دون عوامل جذب فاقعة، كما هي الحال مع الأسواق القديمة لمدينة صيدا أو بوابة الجنوب اللبناني، كما يطيب لأهلها أن يصفوها
.
فالأحياء العتيقة الرابضة خلف سور عند شاطئ البحر غنية بالجمال مع تواضعها، وسعيدة كعروس بحلتها الجديدة بعد مشاريع ترميم
وتأهيل حظيت بها واستفادت منها. لذا تبدو هذه الأسواق محظوظة أكثر مما هي
الحال في مناطق لبنانية أخرى لم ينفع التمويل ليعيد إليها عراقتها.
زائر
الأسواق يكتشف التغيير إذا كان من الذين تجولوا فيها قبل عقد أو أكثر، كأن
يد فنان كشطت عن المكان قشرة الإهمال لتعيد إليه حلته التاريخية وترمم ما
تداعى من حجارته. محظوظة هذه الأسواق لأنها استعادت بهاءها وقدرتها على
جذب السائحين والباحثين عن الحضارات ومعالمها.
وصيدا لمن لا يعرفها تبعد عن بيروت جنوبا نحو 45 كلم، وهي "صيدون" الفينيقية في الزمن الذهبي لتاريخ حوض البحر المتوسط، وهي المملكة التي واجهت الإمبراطور ارتحششتا الثالث أثناء الاحتلال الفارسي.
ثارت
عليه فأتاها بجيش وحاصرها، ولما وجد الصيداويون أن ارتحششتا مصمم على
غزوهم وقهرهم فضّلوا الموت على السبي والأسر، فأغلقوا بوابات أسوارهم
وأحرقوا جميع مراكبهم وأشعلوا النيران في المدينة واستسلموا للموت حرقا.
هذا
ما درسناه في كتاب التاريخ الذي روى أن أكثر من 40 ألف نسمة هلكوا في هذا
الحريق الهائل. وهذا ما حرك خيالنا الطفولي لنستسلم إلى ملاحم وهمية، أين
منها ما كتبه هوميروس في إلياذته؟
هذه
الملاحم الوهمية كانت تدور في واحدة من أقدم مدن حوض البحر الأبيض المتوسط
وأغناها، مساحتها 200 ألف متر مربع، تنبض بالحقب التاريخية والآثار، وكأن
الشعوب القديمة أبت أن تندثر حضارتها من دون ترك بصمة في المكان، ابتداء
بالكنعانيين إلى الفينيقيين واليونانيين والرومان والبيزنطيين والعرب
والعثمانيين وصولا إلى الانتداب الفرنسي.
كل
هذه الحضارات رست سفنها في ميناء المدينة القديمة المجاورة للبحر، كأن
موجه كان يستريح عند عتباتها. وكثير من القادة والتجار والفنانين أقاموا
في بيوتها المشيدة من الحجر الرملي، والمبنية أسقفها على طريقة العقد،
كذلك شوارعها الضيقة، يتسلل النور عبر فتحات تتخللها، وتربط أسواقها
الشعبية المتخصصة بالحرفيات القديمة والمأكولات والحلويات على أنواعها،
ولعل أشهاها "الملبن" المصنوع من النشا والسكر الناعم والمتدلي في حبال
عقدها ثمار الجوز والمعلق عن محلات توارث أصحابها سر تحضيرها أبا عن جد،
بحيث يصعب نسيان مذاقها ولو بعد عشرات السنين.
الواجهة
الساحلية لهذه الأسواق تحتلها مقاهي رصيف شعبية، تتسلم منها نبض العمل بعد
كل غروب، فيتجمع حول طاولاتها محبو الاستكانة لنبض تعب ساعات العمل
والاسترخاء مع كوب شاي ونارجيلة أو بعض المرطبات والحلويات والمثلجات.
أبعد قليلا تنتشر المطاعم، وأشهرها مطعم يملكه ابن صيدا الفنان فضل شاكر،
وآخر لا يملك تجاهله لأن زبائنه يقفون في الصف سعيا إلى ساندويتش فلافل
لا مثيل له على الأراضي اللبنانية.
كما
يقول كل من تذوق فلافل "أبو رامي". ويستطيع محبو الرفاهية أن يدللوا
أنفسهم بزيارة استراحة صيدا السياحية التي تقع على الشاطئ مباشرة، وتتميز
بهندستها المعمارية التراثية، وتقدم لزوارها أطباقا لذيذة وخدمة ممتازة.
أما من لا يرغب في الجلوس في أحد المقاهي أو المطاعم فتكفيه النزهة على
الرصيف البحري الذي أنشئ بحيث يتسع لأكبر عدد من المشاة.
أما
"الداخل"، كما يقول سكانها وهم يرافقون الزوار ويكرمونهم، فهو عبارة عن
شوارع ضيقة تضم أسواق الذهب والثياب والنجارين، وقد اشتهرت السوق الأخيرة
بصناعة العلب الخشبية التي تقدم فيها الحلوى للملوك والسلاطين، وكانت
تصدّر إلى الخارج، كما اشتهرت بصناعة الكراسي وتقشيشها والقباقيب
والطاولات المستديرة الصغيرة ومناخل العجن وأسوار البساتين المحيطة بصيدا
لحمايتها من غزو اللصوص.
كذلك
كان حرفيوه يصنعون صناديق خشبية لا يمكن للعروس أن تغادر منزل ذويها من
دونها، تضع فيها جهازها وتزورها عشية العرس قريباتها ورفيقاتها ليتفرجن
على الجهاز ويحكمن على المهر الذي تكشفه تكاليف الملابس المطرزة
والبياضات وأدوات المطبخ.
أما الصناديق المخصصة للأميرات فكانت من أغلى الأخشاب التي تحملها السفن بناء على طلب مسبق لتليق بالمستوى الرفيع لمن يقتنيها.
واليوم لا يزال بعض الحرفيين البارعين مقصدا لسيدات يرغبن في صندوق من أيام زمان يستخدمنه كقطعة ديكور في صالوناتهن.