هل لبنية الكون نمط معين؟
عناقيد مجرية في الشبكة الكونية. تساءل علماء الكونيات على مر عقود عما إذا كان للكون بنية كسرية متناسبة، أي هل الكون مجرد كتلة غير منتظمة من الأجسام الفضائية أم أن هناك نوعًا من الترتيب المنسق والتشابه الذاتي في شكل أجزائه الصغيرة والكبيرة؟ بعد الانتهاء من عمليات مسح ضخمة للمجرات، توصل العلماء في نهاية المطاف إلى الإجابة.
في أوائل القرن العشرين بدأ علماء الفلك -بدءًا من إدوين هابل واكتشافه للمسافة الهائلة بين درب التبانة وأقرب مجرة إلينا أندروميدا- يدركون أن الكون شاسع بصورة يصعب تصوّرها.
وأنه يمكننا رؤية المجرات القريبة منها والبعيدة وهي متناثرة، ومن هنا طرح السؤال نفسه: هل هناك نمط معين لترتيب تلك المجرات، أم أنه عشوائي تمامًا؟
في البداية، بدا الأمر عشوائيًا؛ إذ رأى علماء الفلك عناقيد مجرية عملاقة تحتوي كل منها على ألف أو أكثر من المجرات، في حين توجد عناقيد أصغر تتألف من مجرات أقل، إضافة إلى مجرات تسبح في الفضاء وحيدة من تلقاء نفسها، هذه الملاحظات جعلت العلماء يميلون إلى الاعتقاد أن بنية الكون لا تخضع حصرًا لنمط واحد.
وقد تماشت تلك الملاحظات مع ما افترضه العلماء سلفًا، فرضية المبدأ الكوني التي مفادها أن الكون في الغالب متجانس ومُوحّد الخصائص في كل مكان وفي جميع الاتجاهات.
لكن في أواخر سبعينيات، أصبحت عمليات مسح الفضاء تظهر مجرات معقدة للغاية بما يوحي بوجود نمط في ترتيب المجرات، إضافة إلى العناقيد المجرية كانت هناك أيضًا خيوط طويلة ورفيعة من المجرات، تجمعات مجرية أشبه بجدران عريضة، ثم تظهر الفراغات وهي مساحات شاسعة من الفضاء. أطلق علماء الفلك على هذا النسيج من المجرات اسم «الشبكة الكونية».
هذا النمط في توزيع المجرات من شأنه أن يتناقض مع مبدأ الكون؛ لأنه يعني أن المناطق الكبيرة من الكون لا تبدو متماثلة في كل مكان.
كون داخل كون
جاءت إحدى الفرضيات من عالم الرياضيات بنو ماندلبروت مؤسس علم الهندسة الكسرية التي تُعرّف على أنها أشكال تتكرر وتتصف بالتشابه الذاتي على كل المقاييس، ومختلف مستويات التكبير والتصغير.
لم يخترع ماندلبروت مفهوم الكسريات، إذ درس علماء الرياضيات الأنماط المتشابهة ذاتيًّا على مر العصور، لكنه صاغ كلمة كسرية وأدخلها في دراستنا الحديثة للمفهوم.
الكسريات موجودة في كل مكان، فإذا كَبرت قطعة الثلج، فسترى رقاقات ثلجية مصغرة، وإذا كبرت فروع شجرة، فسترى فروعًا مصغرة، وإذا كبرت الخط الساحلي فسترى خطوطًا ساحلية مصغرة.
إذ تحيط بنا الكسريات في الطبيعة، وقد مكنتنا رياضيات الهندسة الكسرية من فهم مجموعة كبيرة من الهياكل المتشابهة في الكون.
خمّن ماندلبروت أنه إذا كانت الكسريات موجودة في كل مكان، فربما يكون الكون بأكمله كسريًا، وربما كان ما رأيناه نمطًا في ترتيب المجرات هو صورة مصغّرة لأنماط هائلة من الكسريات.
ربما إذا أجرينا عمليات مسح معقدة للكون بدرجة كافية؛ سنجد هياكل متداخلة أي شبكات كونية داخل شبكات كونية تملأ الكون بأكمله إلى ما لا نهاية.
كونٌ مُتجانس
مع تعاقب الاكتشافات العلمية حول الشبكة الكونية، ازدادت معرفة علماء الفلك بتاريخ الانفجار العظيم؛ إذ توصلوا إلى طرق لتفسير وجود الأنماط واسعة النطاق في الكون.
تنبأت العديد من نظرياتهم بأن الكون ما يزال متجانسًا فقط على نطاقات أكبر بكثير مما لاحظه علماء الفلك سابقًا.
لكن الاختبار النهائي لفرضية الكون الكسري لم يتم حتى هذا القرن، وذلك عندما تمكنت عمليات مسح عملاقة، مثل مسح سلون الرقمي للسماء، من تحديد مواقع ملايين المجرات، ورسم صورة للشبكة الكونية بمقاييس لم تُلاحظها من قبل.
إذا كانت فرضية الكون الكسري صحيحة، فيجب أن نرى شبكتنا الكونية المحلية مُدمجة داخل شبكة كونية أكبر بكثير، أما إذا كانت خاطئة ففي مرحلة ما يجب توقف الشبكة الكونية عن كونها مُتماثلة، وتبدو قطعة عشوائية كبيرة من الكون، تمامًا مثل أي قطعة عشوائية أخرى.
النتيجة هي كون مُتجانس تجانسًا مذهلًا، إذ يلزمك قطع ما يصل إلى 300 مليون سنة ضوئية قبل أن تلاحظ الكون متجانسًا في أجزائه.
الكون بالتأكيد ليس كسريًا، لكن أجزاء من الشبكة الكونية ما تزال تتمتع بخصائص شبيهة بالكسريات.
مثال ذلك، تُشكل كتل من المادة المظلمة تُسمى الهالات بنىً متداخلة وبنىً تحتية، مع وجود هالات فرعية تنحدر منها هالات فرعية أخرى.
يُذكر أيضًا أن فراغات الكون ليست فارغة تمامًا، إذ إنها تحتوي على عدد قليل من المجرات القزمة الباهتة المُرتبة في أنماط خافتة وخيوط رفيعة من الشبكة الكونية.
في عمليات المحاكاة الحاسوبية، تحتوي الفراغات الفرعية داخل هذا الهيكل على شبكاتها الكونية أيضًا.
لذا، في حين أن الكون ككل ليس كسريًا لم تصمد فرضية ماندلبروت، وما يزال بإمكاننا العثور على الهندسة الكسرية في كل مكان تقريبًا من كوننا.
المصدر
عناقيد مجرية في الشبكة الكونية. تساءل علماء الكونيات على مر عقود عما إذا كان للكون بنية كسرية متناسبة، أي هل الكون مجرد كتلة غير منتظمة من الأجسام الفضائية أم أن هناك نوعًا من الترتيب المنسق والتشابه الذاتي في شكل أجزائه الصغيرة والكبيرة؟ بعد الانتهاء من عمليات مسح ضخمة للمجرات، توصل العلماء في نهاية المطاف إلى الإجابة.
في أوائل القرن العشرين بدأ علماء الفلك -بدءًا من إدوين هابل واكتشافه للمسافة الهائلة بين درب التبانة وأقرب مجرة إلينا أندروميدا- يدركون أن الكون شاسع بصورة يصعب تصوّرها.
وأنه يمكننا رؤية المجرات القريبة منها والبعيدة وهي متناثرة، ومن هنا طرح السؤال نفسه: هل هناك نمط معين لترتيب تلك المجرات، أم أنه عشوائي تمامًا؟
في البداية، بدا الأمر عشوائيًا؛ إذ رأى علماء الفلك عناقيد مجرية عملاقة تحتوي كل منها على ألف أو أكثر من المجرات، في حين توجد عناقيد أصغر تتألف من مجرات أقل، إضافة إلى مجرات تسبح في الفضاء وحيدة من تلقاء نفسها، هذه الملاحظات جعلت العلماء يميلون إلى الاعتقاد أن بنية الكون لا تخضع حصرًا لنمط واحد.
وقد تماشت تلك الملاحظات مع ما افترضه العلماء سلفًا، فرضية المبدأ الكوني التي مفادها أن الكون في الغالب متجانس ومُوحّد الخصائص في كل مكان وفي جميع الاتجاهات.
لكن في أواخر سبعينيات، أصبحت عمليات مسح الفضاء تظهر مجرات معقدة للغاية بما يوحي بوجود نمط في ترتيب المجرات، إضافة إلى العناقيد المجرية كانت هناك أيضًا خيوط طويلة ورفيعة من المجرات، تجمعات مجرية أشبه بجدران عريضة، ثم تظهر الفراغات وهي مساحات شاسعة من الفضاء. أطلق علماء الفلك على هذا النسيج من المجرات اسم «الشبكة الكونية».
هذا النمط في توزيع المجرات من شأنه أن يتناقض مع مبدأ الكون؛ لأنه يعني أن المناطق الكبيرة من الكون لا تبدو متماثلة في كل مكان.
كون داخل كون
جاءت إحدى الفرضيات من عالم الرياضيات بنو ماندلبروت مؤسس علم الهندسة الكسرية التي تُعرّف على أنها أشكال تتكرر وتتصف بالتشابه الذاتي على كل المقاييس، ومختلف مستويات التكبير والتصغير.
لم يخترع ماندلبروت مفهوم الكسريات، إذ درس علماء الرياضيات الأنماط المتشابهة ذاتيًّا على مر العصور، لكنه صاغ كلمة كسرية وأدخلها في دراستنا الحديثة للمفهوم.
الكسريات موجودة في كل مكان، فإذا كَبرت قطعة الثلج، فسترى رقاقات ثلجية مصغرة، وإذا كبرت فروع شجرة، فسترى فروعًا مصغرة، وإذا كبرت الخط الساحلي فسترى خطوطًا ساحلية مصغرة.
إذ تحيط بنا الكسريات في الطبيعة، وقد مكنتنا رياضيات الهندسة الكسرية من فهم مجموعة كبيرة من الهياكل المتشابهة في الكون.
خمّن ماندلبروت أنه إذا كانت الكسريات موجودة في كل مكان، فربما يكون الكون بأكمله كسريًا، وربما كان ما رأيناه نمطًا في ترتيب المجرات هو صورة مصغّرة لأنماط هائلة من الكسريات.
ربما إذا أجرينا عمليات مسح معقدة للكون بدرجة كافية؛ سنجد هياكل متداخلة أي شبكات كونية داخل شبكات كونية تملأ الكون بأكمله إلى ما لا نهاية.
كونٌ مُتجانس
مع تعاقب الاكتشافات العلمية حول الشبكة الكونية، ازدادت معرفة علماء الفلك بتاريخ الانفجار العظيم؛ إذ توصلوا إلى طرق لتفسير وجود الأنماط واسعة النطاق في الكون.
تنبأت العديد من نظرياتهم بأن الكون ما يزال متجانسًا فقط على نطاقات أكبر بكثير مما لاحظه علماء الفلك سابقًا.
لكن الاختبار النهائي لفرضية الكون الكسري لم يتم حتى هذا القرن، وذلك عندما تمكنت عمليات مسح عملاقة، مثل مسح سلون الرقمي للسماء، من تحديد مواقع ملايين المجرات، ورسم صورة للشبكة الكونية بمقاييس لم تُلاحظها من قبل.
إذا كانت فرضية الكون الكسري صحيحة، فيجب أن نرى شبكتنا الكونية المحلية مُدمجة داخل شبكة كونية أكبر بكثير، أما إذا كانت خاطئة ففي مرحلة ما يجب توقف الشبكة الكونية عن كونها مُتماثلة، وتبدو قطعة عشوائية كبيرة من الكون، تمامًا مثل أي قطعة عشوائية أخرى.
النتيجة هي كون مُتجانس تجانسًا مذهلًا، إذ يلزمك قطع ما يصل إلى 300 مليون سنة ضوئية قبل أن تلاحظ الكون متجانسًا في أجزائه.
الكون بالتأكيد ليس كسريًا، لكن أجزاء من الشبكة الكونية ما تزال تتمتع بخصائص شبيهة بالكسريات.
مثال ذلك، تُشكل كتل من المادة المظلمة تُسمى الهالات بنىً متداخلة وبنىً تحتية، مع وجود هالات فرعية تنحدر منها هالات فرعية أخرى.
يُذكر أيضًا أن فراغات الكون ليست فارغة تمامًا، إذ إنها تحتوي على عدد قليل من المجرات القزمة الباهتة المُرتبة في أنماط خافتة وخيوط رفيعة من الشبكة الكونية.
في عمليات المحاكاة الحاسوبية، تحتوي الفراغات الفرعية داخل هذا الهيكل على شبكاتها الكونية أيضًا.
لذا، في حين أن الكون ككل ليس كسريًا لم تصمد فرضية ماندلبروت، وما يزال بإمكاننا العثور على الهندسة الكسرية في كل مكان تقريبًا من كوننا.
المصدر