إلى أي مدى تؤثر جيناتك في إرادتك الحرة؟

إلى أي مدى تؤثر جيناتك في إرادتك الحرة؟ Screen12

يظن العديد من الأشخاص أنهم سادة أقدارهم، لكن عندما يتعلق الأمر بسلوكنا وتصرفاتنا فإن جيناتنا التي ورثناها عن آبائنا تملك تأثيرًا لا يُستهان به، وفقًا لأحدث الأبحاث. نستطيع الآن مع تطور التكنولوجيا الوراثية قراءة كامل شيفرتنا الوراثية المكونة من تسلسل 3.2 مليار جزيء من الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين، إذ تشكل هذه الشيفرة الخارطة الأصلية لبناء أجسامنا وأدمغتنا. يكشف هذا التسلسل الجيني مدى اعتماد سلوكنا وتصرفاتنا اليومية على عوامل وأسس بيولوجية، ويبين احتمال ميلنا لتطوير سلوك أو صفات شخصية معينة تأثرًا بهذه العوامل والأسس.

تؤثر جيناتنا في تحديد طولنا أو وزننا أو لون أعيننا، لكن حديثًا بيَّنت الدراسات الوراثية المتعاقبة أن مورثاتنا تتوقع عمرنا أو درجة ذكائنا أو قوة اندفاعنا في الحياة أو استعدادنا لتطوير مرض عقلي، تُكتب هذه الصفات جميعها بدرجات مختلفة ضمن جيناتنا، فأحيانًا تعمل ألوف الجينات معًا في تناغم لإظهار هذه الصفات.

تحدد معظم هذه الجينات كيف ستنتظم دارتنا العصبية منذ المرحلة الجنينية، أي تحدد أسلوب اتصال خلايانا العصبية معًا، ومن ثم طريقة عملها وتواصلها.

حاليًّا مع تقدم الطب نستطيع متابعة تشكل الدماغ وتطوره ضمن الرحم قبل 20 أسبوعًا من الولادة، وقد لُوحِظ أن ظهور بعض التغيرات في الدارة العصبية للدماغ ترافق بوضوح مع جينات تؤثر في حدوث بعض الأمراض مثل التوحد واضطراب فرط الحركة وقصور الانتباه، وكذلك الحالات التي لا تظهر إلا متأخرًا مثل اضطراب ثنائي القطب والاكتئاب الشديد والفصام.

ماذا لو كان لسلوكنا المعقد أساس بيولوجي وراثي؟ ماذا لو كانت جيناتنا تؤثر في أسلوب تشكيل دارتنا العصبية، ومن ثم تحدد تصرفاتنا وسلوكياتنا البسيطة منها والمعقدة، مثل الديانة التي نختار اتباعها، أو طريقة تشكيل آرائنا السياسية، أو أسلوب اختيار أصدقائنا.

إلى أي مدى تؤثر جيناتك في إرادتك الحرة؟ I-1110
يكشف العلماء أن جيناتنا تهيئنا لتطوير سلوكيات معينة مثل آرائنا السياسية، إذ يتعدى دورها تحديد الصفات الظاهرة مثل لون العين أو الشعر

الطبيعة والتنشئة جزآن متكاملان

بعيدًا عن المورَّثات مثل القصص والكتب، قد تنتقل تجارب حياتنا عبر الأجيال بطرق أخرى، يدرس مجال حديث نسبيًّا في العلم يسمى «علم التَّخَلّق» إحدى هذه الطرق، إذ يكشف كيفية ترابط الطبيعة المَوروثة وتجارب نشأتنا وأحداثها وتأثيرها في صياغة سلوكنا وتصرفاتنا، لذلك لا يدرس هذا العلم الجينات أو طفراتها، بل يدرس العلامات التي توضع على الجينات نتيجة تجارب حياتية مررنا بها، إذ تعدل العلامات أسلوب ترجمة هذه الجينات لمكونات بيولوجية تؤثر في بنيتنا وسلوكنا.

بحثت دراسة سنة 2014 التغيرات فوق الجينية عند الفئران، جاءت فكرة الدراسة من حب الفئران لرائحة الكرز، فعندما يتحسس أنفهم نسمةً خفيفة من هذه الرائحة، ينشط مركز المتعة والمكافأة في الدماغ ليحثهم على البحث عن هذه الجائزة الصغيرة. عمد الباحثون إلى ربط رائحة شم الكرز عند الفئران بصعقة كهربية بسيطة، ومع التكرار سرعان ما تعلمت الفئران الترقب والانتباه والخوف عند شم رائحة الكرز.

وجدت هذه الدراسة فيما بعد أن ذكرى الخوف من الكرز قد انتقلت عبر الأجيال إلى الفئران الصغيرة، مع أن هذه الفئران لم تختبر أبدًا الصعقة الكهربية عند شم رائحة الكرز. يعود السبب في انتقال هذه التجربة إلى تغير المادة الوراثية في نطاف الفأر الجد الذي تعرض للصدمة الكهربائية، إذ اكتسبت علامةً مميزة تشير إلى التجربة التي عاشها هذا الفأر.

ما زال هذا المجال العلمي حديثًا نسبيًا، وكذلك أبحاثه المستمرة، إذ توجد الكثير من الأسئلة دون إجابة تتعلق بوجود هذه الآلية عند البشر، لكن الأدلة الأولية تشير إلى أن الأحداث الصادمة الشديدة تستطيع التأثير في المادة الوراثية ومن ثم تنتقل عبر الأجيال.

أظهرت دراسة أن معدل وفيات أبناء سجناء الحرب الأهلية الأمريكية في منتصف العقد الرابع من العمر أعلى بنسبة 11% مقارنةً بأقرانهم الذين لم يتعرض آباءهم للسجن في الحرب الأهلية.

وبالمثل أشارت دراسة أخرى إلى أن الناجين من المحرقة اليهودية في الحرب العالمية الثانية كانوا يملكون وأطفالهم تغيرات وراثيةً في جين معين يرفع مستويات هرمون الكورتيزول، المسؤول عن حالة التوتر والتأهب للأحداث الخطيرة.

الأمر معقد، لكن النتائج تشير إلى أن أحفاد هؤلاء الأشخاص يملكون مستوى مرتفعًا من هرمون الكورتيزول مقارنةً بغيرهم، لذا فهم أكثر عرضةً لتطوير الاضطرابات النفسية والاكتئاب.

هل يوجد أي أمل لحرية الإرادة؟

طبعًا، فالقصة ليست بهذه البساطة، ولا يمكننا أن نجزم باستحالة تغيير حياتنا منذ ولادتنا، سواءً بأدمغتنا التي ولدنا بها أو المادة الوراثية التي ورثناها أو الذكريات التي اكتسبناها من أجدادنا، إذ يوجد دائمًا أمل للتغيير.

مصدر هذا الأمل الطبيعة المرنة لأدمغتنا وقدرتها على التغيُّر والتأقلم، فكلما تعلمنا مهارةً أو فكرةً جديدة، تتشكل روابط جديدة بين خلايانا العصبية، ومع ممارسة هذه المهارة، تزداد قوة الروابط وكفاءتها، حتى تتحول إلى ذكرى قوية تندمج في الذاكرة. وكلما تواتر استدعاء هذه الذكرى، ازدادت قوة الروابط العصبية فتصبح هذه الروابط هي الطريق الأساسي لمرور السيالات العصبية في الدماغ، أي أن هذا السلوك المكتسب أصبح عادةً وسلوكًا طبيعيًا.



غالبًا لن تلاحظ أن الذي تنظر إليه في الفيديو هو الوجه الخلفي لأينشتاين، بل ستحسبه الوجه الأمامي، يحدث هذا بسبب انحياز أدمغتنا نحو رؤية وجوه مألوفة في الطبيعة.

يوضح هذا الوهم مدى صعوبة تغيير تفكيرنا، إذ تُبنى هويتنا وتوقعاتنا لما يحدث معنا على تجارب وأحداث حدثت في الماضي، قد يتطلب الأمر الكثير من الطاقة الفكرية لتحطيم تلك الأطر في عقولنا.

هل نحن آلات راقية؟

تحدثت في كتابي -الذي نُشر العام الماضي تحت عنوان «علم القدر»- عن بحث يسلط الضوء على أكثر الألغاز إثارةً في الحياة، وهو قدرتنا الفردية على الاختيار.

إلى أي مدى تؤثر جيناتك في إرادتك الحرة؟ 10-15-10

يتعلق بالتفكير في أنفسنا بوصفنا آلات راقية شيء جميل للغاية، فنحن نأخذ المعلومات من محيطنا، ونعالجها بأدمغتنا الفريدة المميزة لننتج سلوكًا شخصيًّا يميزنا.

مع ذلك، يرفض الكثير منا التخلي عن اعتقاده بحرية الإرادة وامتلاكها، إذ يعني مصطلح الحتمية البيولوجية أن السلوك البشري غريزي بالكامل، وهذا يقلق البعض، فمن البغيض التفكير في أن بعض الجرائم الفظيعة في التاريخ قد ارتكبها أشخاص غير قادرين على منع أنفسهم، ما يطرح احتمال تكرار حدوثها مرةً أخرى.

من وجهة نظر أخرى، ربما نستطيع النظر إلى أنفسنا بأننا لسنا مقيدين بجيناتنا، وأن الاعتراف بالتأثير الذي تملكه البيولوجيا في سلوكنا وشخصنا قد يتيح لنا استجماع قوانا وقدرتنا الفكرية لتغيير الواقع نحو عالم أفضل.

المصدر