لماذا ننسى بسرعة أمورًا مهمة؟
هل سبق ومررت بتجربة تفقُّد الساعة لتنسى بعدها بثوانٍ كم كان الوقت؟ تجربة فقدان الذاكرة اللحظي أكثر شيوعًا مما نعتقد. اكتشف علماء النفس أن كثيرًا من محتوى تجربتنا البصرية يُنسى بسرعة جدًا ما لم يكن في محل تركيزنا، وقد بلور هذا الأمر عالم النفس جورج سبيرلنغ في دراسته العبقرية عام 1960.
في دراسته تلك، عرض سبيرلنغ وفريقه الصورة التالية فترة وجيزة على المشاركين:
بعد 50 ميللي من الثانية، أزال الباحثون الصورة أعلاه، وطلبوا المشاركين أن يرسموا ذات الصورة التي رأوها بأرقامها وأحرفها التي تمكنوا من تذكرها. بالمعدل، نجح المشاركون بذكر فقط 4 أحرف من المادة المعروضة في الصورة وحوالي 33% من محتواها الكلي.
في الجزء الثاني من التجربة، أرفق الباحثون إشارات سمعية مع كل صف من الرموز. جاءت هذه الإشارات السمعية بعد إزالة الصورة، وكانت تتراوح نغمات الإشارات بين نغمة عالية ومتوسطة وضعيفة.
الهدف من هذه الإشارة السمعية هو إرشاد المشتركين ليعرفوا أي الصفوف يتلون؛ الصف الأول من الرموز إذا كانت النغمة عالية، أو الصف الثاني إذا كانت النغمة متوسطة، أو الصف الثالث إذا كانت النغمة ضعيفة. من المهم الالتفات هنا إلى أن الرسالة السمعية جاءت فقط بعد إزالة الصورة من أمام أعين المشتركين، فهي تخدم بصفتها إشارة استرجاعية لتذكر الصف المعني لا للفت النظر إليه تزامنًا مع عرض الصورة.
في هذا الجزء من التجربة، ثبتت استطاعة المشتركين ذكر أكثر بكثير من 33% من المحتوى في ذاكرتهم بعد إزالة الصورة. حقيقةً، تمكن المشتركون من ذكر 3 من الرموز الـ4 من الصف الذي أشارت إليه النغمة الصوتية. هذا يعني أن المشتركين تمكنوا من إبقاء حوالي 75% من محتوى الصورة في ذاكرتهم فور اختفائها.
تُثبِت هذه النتائج أمرين: أولًا، أن محتوى ذاكرتنا البصرية غني جدًا في بدايته (كما أظهرت نتائج الجزء الثاني من الدراسة)، وثانيًا، أنه إذا لم يُربط هذا المحتوى بهدف لفت النظر إليه، فإنه سيغيب عن الذاكرة خلال جزء من الثانية (وهذا ما رأيناه في الجزء الأول من الدراسة).
مؤخرًا، أجرى باحثون في جامعة بنسلفانيا دراسة أخرى بالاستناد إلى الاستنتاج الثاني من دراسة سبيرلنغ التي تناولناها أعلاه. كان هدف الدراسة هو فحص صحة الفرضية التالية: حتى عندما يركز البشر على أمر ما، فإنهم سيظلون معرضين لنسيان محتواه بسرعة ما لم يكن له قيمة بالنسبة إلى المهمة التي تعنيهم في لحظتها.
وفي تلك الدراسة التي أَجرِيت بين عامي 2015 و2016، عرض كل من الباحثين وي تشن وبراد وايبل صورًا لأحرف وأرقام كتلك التي استعملها سبيرلنغ عام 1960، لكن الفرق في دراستهم كان المهمة التي أَوكِلت للمشتركين التي كانت ذكر لون الحرف الوحيد ضمن مجموعة أرقام.
مثلًا، في الصورتين أدناه، تكون الإجابة عن السؤال المطروح كالتالي: برتقالي للصورة الأولى وأحمر للصورة الثانية. كان أداء المشتركين في هذه المهمة سريعًا ودقيقًا.
أما عند المحاولة الـ 12، جاء العنصر المفاجئ للمشتركين؛ فبعد أن ذكر المشتركون لون الحرف، طلب منهم الباحثون على حين غرة الإجابة عن سؤال: ما هو الحرف الذي رأيتموه؟
قد نتوقع أن تكون الإجابة عن سؤال كهذا بسيطة، إذ إن المشتركين قد سبق ونجحوا في تحديد الحرف ضمن الرموز المعروضة (التي كانت جميعها أرقامًا باستثناء حرف واحد) وذكروا لونه بدقة، فما الذي سيمنعهم من ذكر اسم الحرف الذي رأوه إضافةً إلى لونه؟
لكن نتائج هذه الدراسة جاءت بعكس التوقعات. فقط 35% من المشتركين تمكنوا من تذكر الحرف وقوله رغم أنهم جميعًا كانوا قد رأوه منذ ثانية واحدة.
أطلق الباحثون على هذا النوع من النسيان مصطلح النسيان العنصري Attribute Amnesia، مقترحين أن هذه الحالة ترمز إلى فشل الذاكرة في تنسيق محتوياتها. بكلمات أخرى، لم يُدخِل المشتركون إلى ذاكرتهم اسم الحرف بل أدخلوا اللون فقط وهذا لأن المهمة المطلوبة منهم كانت تحديد الحرف ضمن مجموعة الرموز ونطق لونه، لا نطق هوية الحرف نفسه. هذه المهمة جعلت أدمغة المشتركين يعدون اسم الحرف غير مهم بالنسبة إلى المهمة المطلوبة فاستثنوه من الحفظ في الذاكرة العاملة.
هذه النتائج بطريقة أو أخرى هي أكثر إدهاشًا للمجتمع العلمي من نتائج دراسة ستيرلنغ التي ذكرناها في بداية المقال.
من المنطقي عند تعرضنا لمجموعة من المعلومات (مثلًا صورة من 12 رمزًا) أن نُبقي جزءًا كبيرًا منها في ذاكرتنا فترة قصيرة قبل أن ننساها، لكن ما أثبتته دراسة تشن ووايبل أن هذا النوع من النسيان الفوري أو اللحظي قد يحدث أيضًا حتى في أثناء تركيزنا على جزء محدد من السؤال. ما يُحدِث المفارقة هنا هو صفة المعلومة المطلوب منا الالتفات إليها (لون الحرف أو هويته).
في دراسة تشن ووايبل، هوية الحرف (بصرف النظر عن فكرة أنه كان حرفًا) لم تكن مهمة نسبةً إلى ما طُلِب من المشتركين، وهذا ما جعل المشتركين ينسونها بسرعة.
أما زلت تتساءل لماذا تنسى الوقت فور تحويل نظرك عن الساعة؟
بناءً على ما سبق، لا يُستغرب نسيان الوقت فور إزالة أعيننا عن الساعة.
لنقل إنني أخطط لمشاهدة برنامج تلفزيوني يبدأ عند الساعة 8:00 مساءً، وعند الـ 7:42، تفقدت الساعة لمعرفة: هل بدأ البرنامج؟ في أثناء تفقدي للساعة، لم أكن أركز على التوقيت في حد ذاته، بل كنت أركز على تحديد إن كان البرنامج قد بدأ أم لا.
لهذا، لحظة اكتشافي أن البرنامج لم يبدأ بعد، تسقط أهمية التوقيت لكوني اطمأننت إلى أنه ما زال لدي وقت لبدء العرض.
ما حصل هنا هو أن التوقيت في حد ذاته (كم الساعة؟) قد أَخضِع للـ «النسيان العنصري».
المصدر
هل سبق ومررت بتجربة تفقُّد الساعة لتنسى بعدها بثوانٍ كم كان الوقت؟ تجربة فقدان الذاكرة اللحظي أكثر شيوعًا مما نعتقد. اكتشف علماء النفس أن كثيرًا من محتوى تجربتنا البصرية يُنسى بسرعة جدًا ما لم يكن في محل تركيزنا، وقد بلور هذا الأمر عالم النفس جورج سبيرلنغ في دراسته العبقرية عام 1960.
في دراسته تلك، عرض سبيرلنغ وفريقه الصورة التالية فترة وجيزة على المشاركين:
بعد 50 ميللي من الثانية، أزال الباحثون الصورة أعلاه، وطلبوا المشاركين أن يرسموا ذات الصورة التي رأوها بأرقامها وأحرفها التي تمكنوا من تذكرها. بالمعدل، نجح المشاركون بذكر فقط 4 أحرف من المادة المعروضة في الصورة وحوالي 33% من محتواها الكلي.
في الجزء الثاني من التجربة، أرفق الباحثون إشارات سمعية مع كل صف من الرموز. جاءت هذه الإشارات السمعية بعد إزالة الصورة، وكانت تتراوح نغمات الإشارات بين نغمة عالية ومتوسطة وضعيفة.
الهدف من هذه الإشارة السمعية هو إرشاد المشتركين ليعرفوا أي الصفوف يتلون؛ الصف الأول من الرموز إذا كانت النغمة عالية، أو الصف الثاني إذا كانت النغمة متوسطة، أو الصف الثالث إذا كانت النغمة ضعيفة. من المهم الالتفات هنا إلى أن الرسالة السمعية جاءت فقط بعد إزالة الصورة من أمام أعين المشتركين، فهي تخدم بصفتها إشارة استرجاعية لتذكر الصف المعني لا للفت النظر إليه تزامنًا مع عرض الصورة.
في هذا الجزء من التجربة، ثبتت استطاعة المشتركين ذكر أكثر بكثير من 33% من المحتوى في ذاكرتهم بعد إزالة الصورة. حقيقةً، تمكن المشتركون من ذكر 3 من الرموز الـ4 من الصف الذي أشارت إليه النغمة الصوتية. هذا يعني أن المشتركين تمكنوا من إبقاء حوالي 75% من محتوى الصورة في ذاكرتهم فور اختفائها.
تُثبِت هذه النتائج أمرين: أولًا، أن محتوى ذاكرتنا البصرية غني جدًا في بدايته (كما أظهرت نتائج الجزء الثاني من الدراسة)، وثانيًا، أنه إذا لم يُربط هذا المحتوى بهدف لفت النظر إليه، فإنه سيغيب عن الذاكرة خلال جزء من الثانية (وهذا ما رأيناه في الجزء الأول من الدراسة).
مؤخرًا، أجرى باحثون في جامعة بنسلفانيا دراسة أخرى بالاستناد إلى الاستنتاج الثاني من دراسة سبيرلنغ التي تناولناها أعلاه. كان هدف الدراسة هو فحص صحة الفرضية التالية: حتى عندما يركز البشر على أمر ما، فإنهم سيظلون معرضين لنسيان محتواه بسرعة ما لم يكن له قيمة بالنسبة إلى المهمة التي تعنيهم في لحظتها.
وفي تلك الدراسة التي أَجرِيت بين عامي 2015 و2016، عرض كل من الباحثين وي تشن وبراد وايبل صورًا لأحرف وأرقام كتلك التي استعملها سبيرلنغ عام 1960، لكن الفرق في دراستهم كان المهمة التي أَوكِلت للمشتركين التي كانت ذكر لون الحرف الوحيد ضمن مجموعة أرقام.
مثلًا، في الصورتين أدناه، تكون الإجابة عن السؤال المطروح كالتالي: برتقالي للصورة الأولى وأحمر للصورة الثانية. كان أداء المشتركين في هذه المهمة سريعًا ودقيقًا.
أما عند المحاولة الـ 12، جاء العنصر المفاجئ للمشتركين؛ فبعد أن ذكر المشتركون لون الحرف، طلب منهم الباحثون على حين غرة الإجابة عن سؤال: ما هو الحرف الذي رأيتموه؟
قد نتوقع أن تكون الإجابة عن سؤال كهذا بسيطة، إذ إن المشتركين قد سبق ونجحوا في تحديد الحرف ضمن الرموز المعروضة (التي كانت جميعها أرقامًا باستثناء حرف واحد) وذكروا لونه بدقة، فما الذي سيمنعهم من ذكر اسم الحرف الذي رأوه إضافةً إلى لونه؟
لكن نتائج هذه الدراسة جاءت بعكس التوقعات. فقط 35% من المشتركين تمكنوا من تذكر الحرف وقوله رغم أنهم جميعًا كانوا قد رأوه منذ ثانية واحدة.
أطلق الباحثون على هذا النوع من النسيان مصطلح النسيان العنصري Attribute Amnesia، مقترحين أن هذه الحالة ترمز إلى فشل الذاكرة في تنسيق محتوياتها. بكلمات أخرى، لم يُدخِل المشتركون إلى ذاكرتهم اسم الحرف بل أدخلوا اللون فقط وهذا لأن المهمة المطلوبة منهم كانت تحديد الحرف ضمن مجموعة الرموز ونطق لونه، لا نطق هوية الحرف نفسه. هذه المهمة جعلت أدمغة المشتركين يعدون اسم الحرف غير مهم بالنسبة إلى المهمة المطلوبة فاستثنوه من الحفظ في الذاكرة العاملة.
هذه النتائج بطريقة أو أخرى هي أكثر إدهاشًا للمجتمع العلمي من نتائج دراسة ستيرلنغ التي ذكرناها في بداية المقال.
من المنطقي عند تعرضنا لمجموعة من المعلومات (مثلًا صورة من 12 رمزًا) أن نُبقي جزءًا كبيرًا منها في ذاكرتنا فترة قصيرة قبل أن ننساها، لكن ما أثبتته دراسة تشن ووايبل أن هذا النوع من النسيان الفوري أو اللحظي قد يحدث أيضًا حتى في أثناء تركيزنا على جزء محدد من السؤال. ما يُحدِث المفارقة هنا هو صفة المعلومة المطلوب منا الالتفات إليها (لون الحرف أو هويته).
في دراسة تشن ووايبل، هوية الحرف (بصرف النظر عن فكرة أنه كان حرفًا) لم تكن مهمة نسبةً إلى ما طُلِب من المشتركين، وهذا ما جعل المشتركين ينسونها بسرعة.
أما زلت تتساءل لماذا تنسى الوقت فور تحويل نظرك عن الساعة؟
بناءً على ما سبق، لا يُستغرب نسيان الوقت فور إزالة أعيننا عن الساعة.
لنقل إنني أخطط لمشاهدة برنامج تلفزيوني يبدأ عند الساعة 8:00 مساءً، وعند الـ 7:42، تفقدت الساعة لمعرفة: هل بدأ البرنامج؟ في أثناء تفقدي للساعة، لم أكن أركز على التوقيت في حد ذاته، بل كنت أركز على تحديد إن كان البرنامج قد بدأ أم لا.
لهذا، لحظة اكتشافي أن البرنامج لم يبدأ بعد، تسقط أهمية التوقيت لكوني اطمأننت إلى أنه ما زال لدي وقت لبدء العرض.
ما حصل هنا هو أن التوقيت في حد ذاته (كم الساعة؟) قد أَخضِع للـ «النسيان العنصري».
المصدر