جورجيا طبيعة تأسر الألباب
اسطنبول ليست آسرة بذاتها فحسب، بل بكونها أيضاً رابطة للعالم من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، فبفضل الخطوط الجوية التركية، ومطارات اسطنبول الحديثة والعملاقة تحولت المدينة إلى محطة لا بد منها لمعظم السياح والعابرين حول العالم. وتلعب الخطوط التركية دوراً محورياً الآن في «فتوحات» سياحية جديدة لم تكن تخطر ببال قبل سنوات، وبأسعار وبرامج سفر بمتناول كل الميزانيات، وعند رغبة كل الأذواق لا سيما أذواق مواطني دول الخليج العربي. فمن أي مدينة خليجية إلى اسطنبول خيارات لا تعد ولا تحصى من الوجهات إلى كل أصقاع العالم، بمواقيت مناسبة وعبور مريح، لا بل ممتع، وخدمة رفاه راقية تليق بإحدى أفضل وأكبر شركات الطيران في العالم.
ومن الوجهات الجديدة التي افتتحتها الخطوط التركية بلاد جورجيا التي تتحول تدريجياً إلى مقصد سياحي يؤمه الكويتيون أكثر فأكثر سواء صيفاً أو شتاءً.
المحطة الجورجية الأولى بطبيعة الحال هي العاصمة.
تبليسي المدينة الممتدة على سفوح جبال ترياليني والمخترقة بنهر كورا. في المدينة اساطير كثيرة عن نشأتها، منها أن ملكاً صياداً كان يطارد حيوانات برية حتى وصل إلى منطقة سحرته وشعر بدفئها، فأمر ببناء مدينة فيها، عمر المدينة أكثر من 15 قرناً وتقع على مفترق طرق بين آسيا الصغرى وأوروبا.
عرفت عبر تاريخها حضارات مختلفة بعد غزوات واحتلال فارسي ومغولي وعثماني وروسي، وكانت في كل مرة تتحرر لاستعادة هويتها التي لم تمت يوماً. ولا تنسى المدينة أن العرب وصلوا إليها بعد القرن السابع وكانت ضمن ولاية إسلامية تضم اذربيجان وأرمينيا حتى عام 1122. وحتى الآن هناك أقلية مسلمة تمارس عباداتها وتقاليدها ولها مساجدها في مناخ متسامح.
وفي متحف الفنون 140 ألف قطعة أثرية تحكي تاريخ جورجيا عموما ومدينة تبليسي خصوصاً، وفي عمارتها القديمة مشاهد تروي الكثير عن حقبات التاريخ الذي شهدته وينضح تلاقحاً واضحاً بين حضارات آسيا وأوروبا في التقاء عفوي عند هذه النقطة الاستراتيجية.
لكن محدثك الجورجي يحرص على أن يعود بك إلى تاريخ مملكتي كولنجس وأيبيريا وإلى أن الشعب هناك كان بين أوائل شعوب العالم اعتناقاً للمسيحية منذ القرون الأولى بعد الميلاد، كما يقفز فوق الغزوات ليحدثك عن القرنين الحادي عشر والثاني عشر اللذين بدآ بحكم الملك ديفيد والملكة تامار وعرفت خلالهما البلاد سيادة واستقلالا وازدهاراً خاصاً بها وبحضارتها، لكن لا يفوت محدثك أيضاً التركيز على حقبة طويلة من الحكم الروسي القيصري ثم البولشفي الشيوعي الذي استمر حتى أوائل تسعينات القرن الماضي. ولا يمكن لك إلا أن تلمس الآثار الروسية الباقية في كل مكان تقريباً، والشاهدة على الحقبة السوفيتية التي استمرت 70 عاماً توقف الزمن تقريباً خلالها على شكل واحد. وإذا كانت البلاد مستقلة الآن وتحاول السير في ركب التطور العالمي اقتصاداً واستثماراً واستهلاكاً، وتحاول اللحاق بالثقافة العالمية الغربية، تبقى أسيرة تطور بطيء نسبياً حتى يخيل اليك أن الزمن المتوقف 70 عاماً قد يحتاج إلى 70 عاماً أخرى ليتحرك كما يجب.
وبالعودة إلى تبليسي، يذكر أن السياحة فيها إذا كانت مبرمجة ورفقة دليل محلي ستعرج لا محالة على كنائس وكاتدرائيات كثيرة، وهنا تشعر بتعلق الشعب الجورجي بهويته الدينية. وخير دليل على ذلك، ليس احياء تراث المزارات القديمة بل كاتدرائية بنيت حديثاً (قبل 25 – 30 سنة) هي احدى أكبر الكاتدرائيات الارثوذكسية في العالم الشاهقة والضخمة بكل أركانها.
وهناك كاتدرائية سيوني في الجزء القديم من المدينة التي بنيت في القرن السادس ثم هدمت وأعيد بناؤها عدة مرات لاحقاً، وفيها آثار لمرحلة الفرس التي دمروها بالإضافة إلى برج مبني فيها تخليداً لانتصار الروس على العثمانيين.
وفي الجزء القديم من المدينة حي ساحر بعمارته وأزقته التي ترتادها صعوداً وتعرجاً، ويأخذك فيها سر الحفاظ على تراث عريق عتيد. وهنا، وفي العمارة أيضاً يمر مشهد التاريخ مستذكراً «وجوه» من مروا من هنا ومن رحلوا. ويتحول هذا الحي إلى سياحي بامتياز، زاخر بالمقاهي والمطاعم والمحال التجارية والحرفية وأماكن الترفيه والاسترخاء في أزقة «ضيقة» جغرافياً «شاسعة» تاريخياً وحضارياً.
وفي ذلك الحي حمامات كبريتية بينابيع متدفقة منذ 700 عام دخلت هي أيضاً في حكايا وأساطير منها أن ملكاً أذهلته وأمر ببناء حياة وحضارة حولها.
تخرج من الحي القديم وأنت شارد الذهن قليلاً غير قادر على التركيز لا تعرف أين كنت وأين أنت.. ولا تصحو إلا في الجانب الحديث من تبليسي، فتراقب الناس والمارة لتعرف أن الحاضر في حركة بحث دؤوبة عن مستقبل لم يعرف الجورجيون ما هو تحديداً: فهل هو في الاستثمارات الموعودة التي تأتي ببطء، أم في تعزيز نظام سياسي مستقل إلى جانب روسيا الطاغية الحضور والتأثير، أم في تطلع إلى الاتحاد الأوروبي لتكون جورجيا جزءاً منه؟! هل نحن في آسيا أم في أوروبا؟.. إلى آخر تلك الأسئلة الوجودية التي تطرحها معظم جمهوريات الاتحاد السوفيتي القديم.
لا أجوبة تجدها واضحة، فتصعد إلى قلعة ناريكالا المعلم الأبرز لتلقي نظرة على المدينة من فوق. تلك القلعة المبنية للدفاع عن تبليسي ضد الغزوات والأطماع تبقى شاهدة على الماضي الحاضر، ومنها ترى المدينة كأنها نائمة بين أحضان جبل ونهر بانتظار أيام أفضل، وتلمح من بعيد تمثالاً فضياً عالياً لسيدة بلباس تقليدي تحمل بيد كأساً وبأخرى سيفاً، ويشرح لك الجورجي أنها ترحب بالضيوف وتحذر الأعداء. الضيوف معروفون اليوم؛ انهم السياح الذين ترغب جورجيا بكل جوارحها ومؤسساتها في استقطابهم! أما الأعداء فمن هم؟
قبل أن تترك تبليسي عرج إلى بعض حدائقها، واقصد بحيرة على بعد 10 دقائق من المدينة، ستجد راحة نفس في طبيعة آسرة خلابة، ثم خذ قسطاً من الراحة في أحد المقاهي قبل الرحيل عن هذه المدينة الجميلة الناعسة.
جبال.. جبال
زيارة جورجيا لا تأخذ مدى سحرها إلا بزيارة جبال كازبيجي على المنحدرات الشمالية لسلسلة جبال القوقاز. جمال هذه الجبال دفع السلطات إلى تحويلها إلى محميات، وهنا أيضاً أساطير شعبية و«دينية» ترقى إلى الاغريق القدامى، كما إلى العهد المسيحي الأول.
صعوداً إلى تلك القمم لساعات نشاهد ما لا يخطر ببال من سفوح وانهار وبحيرات في وديان، لوحات مرسومة بعناصر الطبيعة لا توحي إلا بجنات وفراديس مسكونة بــ«أرواح» تحرس المكان منذ ملايين السنين.
يمكن الوصول إلى التخوم الروسية لهذه الجبال، وإلى قمم تقطع الأنفاس، وثلوج تكلل المكان بتيجان سلام بارد دافئ في آن!
في هذه الجبال الخلابة ينابيع ساخنة وبحيرات حمضية وغازية تعرج عليها بنظرة من فوق وأنت تتسلق الجليد وجباله، ولا تفوتك الأهمية الاستراتيجية لهذه المرتفعات الشاهقة التي ترك فيها الإنسان على مر التاريخ حصوناً وأديرة وقلاعاً وأبراج مراقبة، لكن الذي يشدك أكثر هو تلك الطيور المحلقة، لا سيما النسور المجنحة، حتى يهيأ إليك انها تراقبك لتعرف لماذا أتيت؟! وماذا تريد من هذه البقعة التي لا تليق إلا بنسر وصقر أو عقاب؟!
في المنطقة «معسكرات» وأماكن ضيافة وبعض السكان السعداء برؤيتك بين ظهرانيهم. يقدم لك الشراب الساخن، وقد تأوي إلى زاوية بمدفأة نيرانها تغمزك وكأنها تقول لك أهلاً وسهلاً في القوقاز، على الرحب والسعة في نقطة اللاعودة.. وإذا عدت فلن تنسى القوقاز ما حييت.
وفي تلك السفوح يدعوك الجورجيون لترك الطرق المعبدة وسلوك طريق صخرية وعرة صعبة الصعود بل شبه مستحيلة على البعض، تصعد وتصعد وأنت منهوك القوى وبعد ساعة أوأقل قليلا تصل إلى مكان على قمة تلفحك فيها نسمة برد غريبة، أنت الآن في حضرة التاريخ مجدداً.
ستجد كنيسة بنيت منذ 700 عام، وتسأل نفسك لماذا كل هذا العناء، ويأتيك الجواب من المناظر التي تحيط بك من فوق ومن تحت، من الشمال واليمين.. من كل حدب تكاد تشهق انبهاراً لكنك لا تفعل، تصمت وتخشع لأنك في معبد الطبيعة، وفي هيكل عبادة قد تكون أصل العبادات أنها أرض تشبه السماء ببديع تكوينها وخلقها.
وفي تلك الجبال أيضاً بلدات صغيرة يعيش أهلها بين مدنية عصرية بسيطة وتقاليد ألفية عريقة في جوهرها. لتستعيد أنفاسك تقصد أقرب مكان مياه وربما وصلت بك الطريق إلى شلالات في شقوق مذهلة وممرات مائية صخرية ضيقة، هناك تشنف آذانك بنشيد الماء أصل الحياة. وترشف جرعات من ذلك الإكسير الجبلي الفريد.
بورجومي وكوتايسي
بعد نزولك من الجبال لا تنسى أن تمر على مدينة بورجومي في وسط جورجيا إلى الجنوب وفيها منتجعات صحية مشهورة بمياهها المعدنية العلاجية، وكشفت الحفريات الاثرية فيها عن وجود حمامات محفورة في الصخر والحجر استخدمت منذ آلاف السنين ربما. وفي بورجومي أيضاء أجمل منتزهات بلاد القوقاز وبالقرب من مدينة كوتايسي كهف يسمى بروميثيوس هو من أشهر المعالم السياحية الجورجية. في داخله اشكال غريبة صاعدة ونازلة من الرواسب الكلسية وصخور بتكوين جيولوجي فريد من نوعه، تدخل الكهف لا بل عدة كهوف متصلة بطول 1.5 كلم لتشاهد شلالات متحجرة وتكاوين طبيعية من أغرب ما يكون، وأنهار جوفية.. في هذا المكان تأخذ صوراً لا يمكن أخذها في مكان في العالم. صور تضعك في «كادر» من قبل التاريخ.
ويذكر أن كوتايسي ثاني أكبر مدينة بعد تبليسي وتبعد عنها 220 كلم إلى الغرب، هي مدينة انيقة باشجار منسقة ومبانٍ من القرن الــ 19 وتمتد حتى نهر يسمى ريوني بحدائق زاخرة بنباتاتها، وفيها تجد معابد يهودية وكنائس مسجلة في قائمة اليونسكو لأهم مواقع التراث العالمي.
باتومي
باتومي مسك ختام رحلة إلى جورجيا. انها مدينة على البحر الأسود. تصلها لتلاحظ فوراً أنها أكثر انتعاشاً وحيوية من كثير من مدن جورجيا. انه البحر يا عزيزي، بحر تطل عليها تركيا وبلغاريا ورومانيا وأوكرانيا وروسيا. نقطة استراتيجية في هذه المنطقة من العالم. بحر يصل آسيا بأوروبا ويتصل بالبحر المتوسط عبر مضيق البوسفور وبحر مرمرة. بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عاد البحر الأسود ليلعب دوراً في لقاء حضارات وتجارب وثقافات فيها من الغنى والتنوع ما قد يمزج العالم في بؤرة أو بقعة واحدة.
عندما تصل إلى باتومي تشعر أن تجربتك فيها ستكون مختلفة. وهذا ما ستكتشفه في مدينة قريبة من السواحل الثرية جغرافياً واقتصادياً وثقافياً أيضاً. يختلف مزاج الجورجيين فيها من رجال جبال بعيدة نائية إلى متطلعين إلى انفتاح على العالم. تخرج للتنزه فإذا بك فوراً في ممشى طويل أنيق جميل زاخر بالحدائق والاستراحات والنباتات والطيور والتماثيل. وها انت الآن في قلب الاسترخاء على طول 4 كلم تغمرك الأصوات والروائح المزيلة لأي تعب أو غم.
باتومي رهان جورجي على استقطاب السياح، تكثر فيها المطاعم والمقاهي، وأماكن الترفيه على أنواعها. ليلها لا يشبه ليل تبليسي، بل أقرب الى اسطنبول او بيروت.
في شوارعها تسمع العربية والتركية والروسية. كما بدأت المدينة باستقطاب الأوروبيين ايضا.
اشتهرت المدينة سابقاً بأنها لؤلؤة البحر الأسود، بازدهارها، وانفتاحها، وجمال شواطئها، ورحابة متنزهاتها وحدائقها الغنّاء بطيورها الجميلة، سواء على أشجارها أو البط السابح في مائها.
تستقطب المدينة استثمارات أجنبية، وهذا ما تشاهده في ابراج حديثة، منها برج الحروف الأبجدية الذي تحول رمزاً للمدينة الآن بارتفاع 130 متراً. يرمز البرج بهندسته الى تفرد اللغة الجورجية ذات الــ 33 حرفاً تحيط بالمبنى بشكل يشبه شريط DNA، في أعلاه مطعم بانورامي يمنحك إطلالة على المدينة والشاطئ حتى الأفق البعيد الحالم من البحر.
تمكث في باتومي يومين أو أكثر، فتستمتع على نحو يجعلك ترغب بالعودة الى جورجيا مرة أخرى، لا محالة، خصوصا إذا كنت تركت نفسك تتوه في المدينة نهاراً أو ليلا، ومشيت ساعات بين أحيائها القديمة والحديثة، وأخذت قسطاً من غذائها الشهي، ومقاهيها الضاجة بموسيقى الشرق والغرب، في مزيج يشنف الآذان ويطرب المهج.
اسطنبول ليست آسرة بذاتها فحسب، بل بكونها أيضاً رابطة للعالم من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، فبفضل الخطوط الجوية التركية، ومطارات اسطنبول الحديثة والعملاقة تحولت المدينة إلى محطة لا بد منها لمعظم السياح والعابرين حول العالم. وتلعب الخطوط التركية دوراً محورياً الآن في «فتوحات» سياحية جديدة لم تكن تخطر ببال قبل سنوات، وبأسعار وبرامج سفر بمتناول كل الميزانيات، وعند رغبة كل الأذواق لا سيما أذواق مواطني دول الخليج العربي. فمن أي مدينة خليجية إلى اسطنبول خيارات لا تعد ولا تحصى من الوجهات إلى كل أصقاع العالم، بمواقيت مناسبة وعبور مريح، لا بل ممتع، وخدمة رفاه راقية تليق بإحدى أفضل وأكبر شركات الطيران في العالم.
ومن الوجهات الجديدة التي افتتحتها الخطوط التركية بلاد جورجيا التي تتحول تدريجياً إلى مقصد سياحي يؤمه الكويتيون أكثر فأكثر سواء صيفاً أو شتاءً.
المحطة الجورجية الأولى بطبيعة الحال هي العاصمة.
تبليسي المدينة الممتدة على سفوح جبال ترياليني والمخترقة بنهر كورا. في المدينة اساطير كثيرة عن نشأتها، منها أن ملكاً صياداً كان يطارد حيوانات برية حتى وصل إلى منطقة سحرته وشعر بدفئها، فأمر ببناء مدينة فيها، عمر المدينة أكثر من 15 قرناً وتقع على مفترق طرق بين آسيا الصغرى وأوروبا.
عرفت عبر تاريخها حضارات مختلفة بعد غزوات واحتلال فارسي ومغولي وعثماني وروسي، وكانت في كل مرة تتحرر لاستعادة هويتها التي لم تمت يوماً. ولا تنسى المدينة أن العرب وصلوا إليها بعد القرن السابع وكانت ضمن ولاية إسلامية تضم اذربيجان وأرمينيا حتى عام 1122. وحتى الآن هناك أقلية مسلمة تمارس عباداتها وتقاليدها ولها مساجدها في مناخ متسامح.
وفي متحف الفنون 140 ألف قطعة أثرية تحكي تاريخ جورجيا عموما ومدينة تبليسي خصوصاً، وفي عمارتها القديمة مشاهد تروي الكثير عن حقبات التاريخ الذي شهدته وينضح تلاقحاً واضحاً بين حضارات آسيا وأوروبا في التقاء عفوي عند هذه النقطة الاستراتيجية.
لكن محدثك الجورجي يحرص على أن يعود بك إلى تاريخ مملكتي كولنجس وأيبيريا وإلى أن الشعب هناك كان بين أوائل شعوب العالم اعتناقاً للمسيحية منذ القرون الأولى بعد الميلاد، كما يقفز فوق الغزوات ليحدثك عن القرنين الحادي عشر والثاني عشر اللذين بدآ بحكم الملك ديفيد والملكة تامار وعرفت خلالهما البلاد سيادة واستقلالا وازدهاراً خاصاً بها وبحضارتها، لكن لا يفوت محدثك أيضاً التركيز على حقبة طويلة من الحكم الروسي القيصري ثم البولشفي الشيوعي الذي استمر حتى أوائل تسعينات القرن الماضي. ولا يمكن لك إلا أن تلمس الآثار الروسية الباقية في كل مكان تقريباً، والشاهدة على الحقبة السوفيتية التي استمرت 70 عاماً توقف الزمن تقريباً خلالها على شكل واحد. وإذا كانت البلاد مستقلة الآن وتحاول السير في ركب التطور العالمي اقتصاداً واستثماراً واستهلاكاً، وتحاول اللحاق بالثقافة العالمية الغربية، تبقى أسيرة تطور بطيء نسبياً حتى يخيل اليك أن الزمن المتوقف 70 عاماً قد يحتاج إلى 70 عاماً أخرى ليتحرك كما يجب.
وبالعودة إلى تبليسي، يذكر أن السياحة فيها إذا كانت مبرمجة ورفقة دليل محلي ستعرج لا محالة على كنائس وكاتدرائيات كثيرة، وهنا تشعر بتعلق الشعب الجورجي بهويته الدينية. وخير دليل على ذلك، ليس احياء تراث المزارات القديمة بل كاتدرائية بنيت حديثاً (قبل 25 – 30 سنة) هي احدى أكبر الكاتدرائيات الارثوذكسية في العالم الشاهقة والضخمة بكل أركانها.
وهناك كاتدرائية سيوني في الجزء القديم من المدينة التي بنيت في القرن السادس ثم هدمت وأعيد بناؤها عدة مرات لاحقاً، وفيها آثار لمرحلة الفرس التي دمروها بالإضافة إلى برج مبني فيها تخليداً لانتصار الروس على العثمانيين.
وفي الجزء القديم من المدينة حي ساحر بعمارته وأزقته التي ترتادها صعوداً وتعرجاً، ويأخذك فيها سر الحفاظ على تراث عريق عتيد. وهنا، وفي العمارة أيضاً يمر مشهد التاريخ مستذكراً «وجوه» من مروا من هنا ومن رحلوا. ويتحول هذا الحي إلى سياحي بامتياز، زاخر بالمقاهي والمطاعم والمحال التجارية والحرفية وأماكن الترفيه والاسترخاء في أزقة «ضيقة» جغرافياً «شاسعة» تاريخياً وحضارياً.
وفي ذلك الحي حمامات كبريتية بينابيع متدفقة منذ 700 عام دخلت هي أيضاً في حكايا وأساطير منها أن ملكاً أذهلته وأمر ببناء حياة وحضارة حولها.
تخرج من الحي القديم وأنت شارد الذهن قليلاً غير قادر على التركيز لا تعرف أين كنت وأين أنت.. ولا تصحو إلا في الجانب الحديث من تبليسي، فتراقب الناس والمارة لتعرف أن الحاضر في حركة بحث دؤوبة عن مستقبل لم يعرف الجورجيون ما هو تحديداً: فهل هو في الاستثمارات الموعودة التي تأتي ببطء، أم في تعزيز نظام سياسي مستقل إلى جانب روسيا الطاغية الحضور والتأثير، أم في تطلع إلى الاتحاد الأوروبي لتكون جورجيا جزءاً منه؟! هل نحن في آسيا أم في أوروبا؟.. إلى آخر تلك الأسئلة الوجودية التي تطرحها معظم جمهوريات الاتحاد السوفيتي القديم.
لا أجوبة تجدها واضحة، فتصعد إلى قلعة ناريكالا المعلم الأبرز لتلقي نظرة على المدينة من فوق. تلك القلعة المبنية للدفاع عن تبليسي ضد الغزوات والأطماع تبقى شاهدة على الماضي الحاضر، ومنها ترى المدينة كأنها نائمة بين أحضان جبل ونهر بانتظار أيام أفضل، وتلمح من بعيد تمثالاً فضياً عالياً لسيدة بلباس تقليدي تحمل بيد كأساً وبأخرى سيفاً، ويشرح لك الجورجي أنها ترحب بالضيوف وتحذر الأعداء. الضيوف معروفون اليوم؛ انهم السياح الذين ترغب جورجيا بكل جوارحها ومؤسساتها في استقطابهم! أما الأعداء فمن هم؟
قبل أن تترك تبليسي عرج إلى بعض حدائقها، واقصد بحيرة على بعد 10 دقائق من المدينة، ستجد راحة نفس في طبيعة آسرة خلابة، ثم خذ قسطاً من الراحة في أحد المقاهي قبل الرحيل عن هذه المدينة الجميلة الناعسة.
جبال.. جبال
زيارة جورجيا لا تأخذ مدى سحرها إلا بزيارة جبال كازبيجي على المنحدرات الشمالية لسلسلة جبال القوقاز. جمال هذه الجبال دفع السلطات إلى تحويلها إلى محميات، وهنا أيضاً أساطير شعبية و«دينية» ترقى إلى الاغريق القدامى، كما إلى العهد المسيحي الأول.
صعوداً إلى تلك القمم لساعات نشاهد ما لا يخطر ببال من سفوح وانهار وبحيرات في وديان، لوحات مرسومة بعناصر الطبيعة لا توحي إلا بجنات وفراديس مسكونة بــ«أرواح» تحرس المكان منذ ملايين السنين.
يمكن الوصول إلى التخوم الروسية لهذه الجبال، وإلى قمم تقطع الأنفاس، وثلوج تكلل المكان بتيجان سلام بارد دافئ في آن!
في هذه الجبال الخلابة ينابيع ساخنة وبحيرات حمضية وغازية تعرج عليها بنظرة من فوق وأنت تتسلق الجليد وجباله، ولا تفوتك الأهمية الاستراتيجية لهذه المرتفعات الشاهقة التي ترك فيها الإنسان على مر التاريخ حصوناً وأديرة وقلاعاً وأبراج مراقبة، لكن الذي يشدك أكثر هو تلك الطيور المحلقة، لا سيما النسور المجنحة، حتى يهيأ إليك انها تراقبك لتعرف لماذا أتيت؟! وماذا تريد من هذه البقعة التي لا تليق إلا بنسر وصقر أو عقاب؟!
في المنطقة «معسكرات» وأماكن ضيافة وبعض السكان السعداء برؤيتك بين ظهرانيهم. يقدم لك الشراب الساخن، وقد تأوي إلى زاوية بمدفأة نيرانها تغمزك وكأنها تقول لك أهلاً وسهلاً في القوقاز، على الرحب والسعة في نقطة اللاعودة.. وإذا عدت فلن تنسى القوقاز ما حييت.
وفي تلك السفوح يدعوك الجورجيون لترك الطرق المعبدة وسلوك طريق صخرية وعرة صعبة الصعود بل شبه مستحيلة على البعض، تصعد وتصعد وأنت منهوك القوى وبعد ساعة أوأقل قليلا تصل إلى مكان على قمة تلفحك فيها نسمة برد غريبة، أنت الآن في حضرة التاريخ مجدداً.
ستجد كنيسة بنيت منذ 700 عام، وتسأل نفسك لماذا كل هذا العناء، ويأتيك الجواب من المناظر التي تحيط بك من فوق ومن تحت، من الشمال واليمين.. من كل حدب تكاد تشهق انبهاراً لكنك لا تفعل، تصمت وتخشع لأنك في معبد الطبيعة، وفي هيكل عبادة قد تكون أصل العبادات أنها أرض تشبه السماء ببديع تكوينها وخلقها.
وفي تلك الجبال أيضاً بلدات صغيرة يعيش أهلها بين مدنية عصرية بسيطة وتقاليد ألفية عريقة في جوهرها. لتستعيد أنفاسك تقصد أقرب مكان مياه وربما وصلت بك الطريق إلى شلالات في شقوق مذهلة وممرات مائية صخرية ضيقة، هناك تشنف آذانك بنشيد الماء أصل الحياة. وترشف جرعات من ذلك الإكسير الجبلي الفريد.
بورجومي وكوتايسي
بعد نزولك من الجبال لا تنسى أن تمر على مدينة بورجومي في وسط جورجيا إلى الجنوب وفيها منتجعات صحية مشهورة بمياهها المعدنية العلاجية، وكشفت الحفريات الاثرية فيها عن وجود حمامات محفورة في الصخر والحجر استخدمت منذ آلاف السنين ربما. وفي بورجومي أيضاء أجمل منتزهات بلاد القوقاز وبالقرب من مدينة كوتايسي كهف يسمى بروميثيوس هو من أشهر المعالم السياحية الجورجية. في داخله اشكال غريبة صاعدة ونازلة من الرواسب الكلسية وصخور بتكوين جيولوجي فريد من نوعه، تدخل الكهف لا بل عدة كهوف متصلة بطول 1.5 كلم لتشاهد شلالات متحجرة وتكاوين طبيعية من أغرب ما يكون، وأنهار جوفية.. في هذا المكان تأخذ صوراً لا يمكن أخذها في مكان في العالم. صور تضعك في «كادر» من قبل التاريخ.
ويذكر أن كوتايسي ثاني أكبر مدينة بعد تبليسي وتبعد عنها 220 كلم إلى الغرب، هي مدينة انيقة باشجار منسقة ومبانٍ من القرن الــ 19 وتمتد حتى نهر يسمى ريوني بحدائق زاخرة بنباتاتها، وفيها تجد معابد يهودية وكنائس مسجلة في قائمة اليونسكو لأهم مواقع التراث العالمي.
باتومي
باتومي مسك ختام رحلة إلى جورجيا. انها مدينة على البحر الأسود. تصلها لتلاحظ فوراً أنها أكثر انتعاشاً وحيوية من كثير من مدن جورجيا. انه البحر يا عزيزي، بحر تطل عليها تركيا وبلغاريا ورومانيا وأوكرانيا وروسيا. نقطة استراتيجية في هذه المنطقة من العالم. بحر يصل آسيا بأوروبا ويتصل بالبحر المتوسط عبر مضيق البوسفور وبحر مرمرة. بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عاد البحر الأسود ليلعب دوراً في لقاء حضارات وتجارب وثقافات فيها من الغنى والتنوع ما قد يمزج العالم في بؤرة أو بقعة واحدة.
عندما تصل إلى باتومي تشعر أن تجربتك فيها ستكون مختلفة. وهذا ما ستكتشفه في مدينة قريبة من السواحل الثرية جغرافياً واقتصادياً وثقافياً أيضاً. يختلف مزاج الجورجيين فيها من رجال جبال بعيدة نائية إلى متطلعين إلى انفتاح على العالم. تخرج للتنزه فإذا بك فوراً في ممشى طويل أنيق جميل زاخر بالحدائق والاستراحات والنباتات والطيور والتماثيل. وها انت الآن في قلب الاسترخاء على طول 4 كلم تغمرك الأصوات والروائح المزيلة لأي تعب أو غم.
باتومي رهان جورجي على استقطاب السياح، تكثر فيها المطاعم والمقاهي، وأماكن الترفيه على أنواعها. ليلها لا يشبه ليل تبليسي، بل أقرب الى اسطنبول او بيروت.
في شوارعها تسمع العربية والتركية والروسية. كما بدأت المدينة باستقطاب الأوروبيين ايضا.
اشتهرت المدينة سابقاً بأنها لؤلؤة البحر الأسود، بازدهارها، وانفتاحها، وجمال شواطئها، ورحابة متنزهاتها وحدائقها الغنّاء بطيورها الجميلة، سواء على أشجارها أو البط السابح في مائها.
تستقطب المدينة استثمارات أجنبية، وهذا ما تشاهده في ابراج حديثة، منها برج الحروف الأبجدية الذي تحول رمزاً للمدينة الآن بارتفاع 130 متراً. يرمز البرج بهندسته الى تفرد اللغة الجورجية ذات الــ 33 حرفاً تحيط بالمبنى بشكل يشبه شريط DNA، في أعلاه مطعم بانورامي يمنحك إطلالة على المدينة والشاطئ حتى الأفق البعيد الحالم من البحر.
تمكث في باتومي يومين أو أكثر، فتستمتع على نحو يجعلك ترغب بالعودة الى جورجيا مرة أخرى، لا محالة، خصوصا إذا كنت تركت نفسك تتوه في المدينة نهاراً أو ليلا، ومشيت ساعات بين أحيائها القديمة والحديثة، وأخذت قسطاً من غذائها الشهي، ومقاهيها الضاجة بموسيقى الشرق والغرب، في مزيج يشنف الآذان ويطرب المهج.