الجميع للواحد..والواحد للجميع

الجميع للواحد..والواحد للجميع 174710

إلى أي مدى يمكن أن تنخفض درجة حرارة قلب الإنسان؟ …

يمكنها ان تبلغ درجة الصفر او اقل فيتجمد و يصير معها جلمود صخر اصم أو قد يتحول الى حالة فيزيائية مبهمة قد يمكن تسميتها بـ”التمعدن” او “التفولذ” ربما .. يموت معها القلب وتنتحر الانسانية و يتحول بها العقل الى عفن افكار متوحشة، درجة تسمح لـ”انسان” بنسف الانسان بحجة المصلحة او” التجربة” كما حدث عند انفجاري هيروشيما وناغازاكي حيث القيت قنبلة نووية مدمرة على كل منهما هي الان أشهر من نار على علم ، لمجرد الانتشاء بمشاهدة هذا الانجاز البشري “العظيم” . راح قرابة 166.000 ضحية تفجير هيروشيما بينما كان قرابة 80.000 ضحية لتفجير مماثل هز مدينة ناغازاكي اليابانية بعد ثلاثة أيام.

مدينتان أبيدتا بالكامل ، فأذيب منهما الأخضر واليابس واحترق كل شيء فلم يبق حي ولاجماد الا متفحما.ولم تخمد النيران إلا وقد تحولت هيروشيما في السادس من أوت 1945 الى خلاء قفر وظلام دامس رغم عدم حلول المساء بعد . أصبحت خرابا شاملا و أرضها ترابا احمر وبقايا حطام بيوت منهارة وأشلاء جثث وركاما مبعثرا..

تراجيديا محبطة ومأساة لم يعرف لها العالم مثيلا …ابادة جماعية نُفِّذَت باحتراف و أُعِيد تنفيذها بنفس “الاحتراف” في ناغازاكي ، والعالم يتفرج و يتوقع انهيار اليابان وانجرافها نحو المجهول بعد هذا الكمّ الهائل من الخسائر المكدسة ، وبقايا الاشعاعات النووية المتكثفة في مجالها الجوي ، وهذه الكتلة الضخمة من الاحباط والدمار النفسي بالجملة . لكن ماحدث كان مغايرا تماما لكل التوقعات ، محطما لحكم الكارثة على اليابان بالاعدام ..

ربما لم يعتقد احد أن اليابان قد تترك الأحقاد وكل نوايا الثأر والانتقام جانبا لتجعل من هدفها اكثر رفعة وسموا من مجرد البقاء في درك قذر مظلم حيث الصراع والعراك والمطامع وتصفية الحسابات. لقد أدركت ببساطة أن ذلك سيكون أشبه بالعيش في مجاري للمياه مع القوارض، وأنه لافائدة من البقاء عالقين في حلقة مفرغة من الفعل ورد الفعل .. لقد ادركوا أنه من الحماقة تكريس جهود ومصاريف من أجل انتقام لايُرجى منه سوى انتقام ٱخر من الطرف المقابل..

مضيعة للوقت ، والزمن يمضي ولاينتظر احدا حتى يصفي حساباته ليقف مصفقا له. فاستطاعت اليابان تجاوز النقم فألقت بخيار “البادئ أظلم” و”العنف بالعنف” في مكب نفايات بعيد فنهضت من جديد بعد ان دُفِنَت تحت أطنان من الرماد والحطام وقد ظن الجميع أنها صارت في عداد المنسيين ، بل وارتقت باقتصادها ليصبح أفضل مما كان عليه قبل الحرب العالمية الثانية في مدة لا تزيد عن سبع سنوات بعد الانفجارين!

شعب آمن أنه لاسبيل إلى تطوير بلدهم وحماية وطنهم إلا بالصوت الواحد و الكلمة الواحدة و الهدف الواحد … لا بتغريد كل سرب حسب مزاجه و إيقاعه المفضل . الوحدة هي الأساس والعمود الفقري ، والأعمدة لبنيان متراص لا تتخلله فجوات حزب زيد و لا طائفة عمر .. الكل ينشد حسب طبقة صوتية واحدة منسجمة ، والكل ملتزم باللاَّنشاز . الجميع يسعى لتقديم أفضل مايمكنه سواء كان الحاكم أم المحكوم ، صاحب الشركة أم بوابها، العامل والموظف والطبيب والنادل والسباك والمهندس…الجميع يخلص لمبدأ واحد إقتبسه من احدى أفلام “دي كابريو” : The Man In The Iron Mask ( الرجل صاحب القناع الحديدي) :”الجميع للواحد ، والواحد للجميع” .

مهمة جماعية ملحمية ترتكز على عزيمة بشرية خارقة حققت المعجزات و بنت على الأنقاض ناطحات السحاب و المفاعلات النووية (بغير هدف صنع القنابل) و لا حاجة للحديث عن انجازات اليابان اليوم ، فمن لا يدرك اشعاعها هو بالتأكيد خارج عن العصر وعن الموضوع.

لقد تجاوزوا العقبات ، وكسروا حاجز العجز وصفعوا وجه الإحباط بالإرادة ..

لقد انطلقوا من لاشيء ..من صفر، فامتلكوا كل شيء و أصبح الصفر أصفارا مضاعفة..على يمين أرقام أخرى.

والسر ليس بشعوذة أسطورية أُلقيت عليهم و لا بوصفة سحرية تناولها اليابانيون في حبوب وأقراص، بل هو ابسط من ذلك بكثير…إنه العقل.

وللتذكير فإننا جميعا نملك عقولا..نفس العقول، نفس الأدمغة بنفس التركيبة و الحجم و الكتلة..وبنفس التقاسيم و التلافيف وبنفس تركيبة الجمجمة التي تحتوي الدماغ ، وبنفس الإمكانيات. فمآلذي يجعل اليابانيين قادرين على الانبعاث من الصفر في الأربعينيات بينما نعجز نحن عن تطوير ذواتنا في الألفينيات رغم أننا لا ننطلق من صفر ؟ هل ننتظر تفجيرا نوويا لنتغير؟ مآلذي يجعل الفرق بيننا و بينهم بُعد سنين ضوئية ؟ ولماذا نقبع في نفس الوضعية التي عهدنا أنفسنا عليها منذ سنين ؟..

ان تفجيرات هيروشيما و ناغازاكي كانت كفيلة بأن تمحي الكيان الياباني من الوجود وتُشَتِت الشعب الياباني حول بقاع الأرض فتبقى اليابان مجرد رقعة ترابية قد حدث ذات يوم أن كانت دولة…لكنهم غيروا التاريخ، وتغيير التاريخ ليس كتغيير تاريخ اليوم في بيانات جوالك ،إنه ثورة و أسطورة حقيقية حدثت من لاشيء ..لاشيء! بينما نخطو نحن خطوة نحو الأمام ثم نتدحرج خطوات نحو الخلف، فما تقدمنا سوى بضع أقدام نحو الأمام خلال سنين طويلة قد قطعت شعوب أخرى خلالها أميالا بل و قطعت الكرة الأرضية طولا و عرضا بينما نتفرج و نبدي إعجابنا و نتحسر على حالنا التعيس و مستنقعنا الراكد ، ثم نفتح كيسا مهترئا لنبحث فيه عن مبررات واهية و أعذار سمجة لنغطي عين الشمس بغربال قد اهترأ هو الٱخر..آعتدنا القول أننا شعوب مغلوبة على أمرها نحن العرب ، يحكمنا الطواغيت و تكبلنا الأنظمة الديكتاتورية عن الإنتاج، ولعلها كانت حجة مناسبة لتبرير فشلنا الذريع في النهوض بأنفسنا و تحقيق استقلاليتنا. لكن أي حجة نمتلكها الٱن بعد أن حُرِّرت رقابنا من الطواغيت المزعومين ؟ وعن أي ثورة نتحدث و أغلب العقول لازالت عالقة في القرون الوسطى لا تفرق بين حرية و فوضى ؟

إنها أزمة عقلية مشتتة ، هائمة، شاردة..

أزمة آحتقار للذات و خمول مستعص استعصاء الأوبئة ..أزمة ممتدة الجذور و قد لا يمكن اقتفاء مدى امتداد جذورها! فمعظمنا غارق في وحل من الاحباط و الفشل و إن لم نفشل فسنجد من يسعى لإفشالنا ، وإن فشلنا فأغلبنا على الأرجح سيتخذ من الفشل عادة ويبقى فيه.

قد يكون التخلص من الدكتاتور و التحصل على تأشيرة لتأسيس حزب ما بعضا من مظاهر حدوث ثورة لكنها ليست الثورة. لأن الثورة تغيير كلي جذري ينطلق أولا من أفكارنا و عاداتنا و أسلوب حياتنا حتى ينعكس على واقعنا فيقلبه،إيجابيا، رأسا على عقب .

الثورة الحقيقية كما أتخيلها فكر جديد وعقلية مختلفة. الثورة ابداع ، حب للحياة ، تفاؤل ، تسامح ،تعايش،نقد بناء ، عزيمة و إرادة … أن تكون ثوريا يعني أن تكون أنت كما أنت دون قناع حزبي أو قبعة عقائدية قد لا تكون مقتنعا بها حتى، أن تكون كما انت مفتخرا بانتمائك الى وطنك،أن تصم ٱذانك عن كل من أراد إقناعك بالتعصب إلى شق ما دون غيره،فالثورة وحدة مجتمع ، صوت واحد ،كلمة واحدة وهدف واحد .

نحن بأمس الحاجة لغسيل دماغ عاجل حتى نعيد برمجة الأفكار التي رُبِّينا عليها، في مجتمع يقيم التفرقة في كل شيء ..نحن نصنف بعضنا البعض منذ الصغر حسب إمكانياتنا المادية ، وتتفاقم فيها طبقية القرون الوسطى ، ويصبح الغني الشخص الذي يجب التقرب منه والفقير هو المُحْتَقَر الذي لايسوى مليما ، ونصنف بعضنا حسب الجهات و حسب فرق كرة القدم و نحتقر بعضنا لسبب أو لآخر ، و نتوارث هذه “المبادئ ” من جيل لآخر..فلم نحظ بلحظة وحدة تجمعنا على رأي واحد إلا عندما هبَّت ذات معجزة بعض الشعوب العربية في صرخة مدوية أسقطت أعتى الأنظمة و أكثرها استعمالا للغراء اللاصق على كراسي الحكم . إنه دليل حي و كاشف وصارخ أنه لا نجاح دون تكاتف ..وأنه لا سبيل لتشتيت لحمة شعب متفق رغم اختلافاته ، لكننا غفلنا عن ذلك أو ربما تغافل بعضنا عن ذلك لسبب أو ٱخر…

وتكاثرت الأحزاب من كل حدب وصوب وصارت نقاشاتنا ثرثرة واهية ومضيعة للوقت . معظم حواراتنا عقيمة و أكثرها تناقش قشور الأمور ، وتتخذ اللحية موضوعا أو من شعرة متسللة من خمار فتاة محجبة مسألة فقه محيرة . فما كان ذات يوم ثورة أصبح اليوم مجرد حدث مكن الكثيرين من الترويح عن صدورهم من الكلام الذي لطالما أرادوا قوله وإن كان سمجا مزعجا ، وكأن “الثورة” برنامج اذاعي للحديث من أجل الحديث فقط ..سويعات فضفضة ومجال مفتوح للدردشة.

الحوار مطلوب بالفعل ورأي الأفراد مقدس لا شك في ذلك، لكن أي حوار و أي رأي؟ ليست كل الحوارات تحدث فرقا وليست كل الآراء تستحق أن تقال، وما أكثر الآراء التي تعتدي على الحُرَم والأعراض بحجة الحرية.

التغيير صعب بالفعل ، بشهادة الواقع ، وبشهادة التاريخ.. لكن الثورة أن تقتحم الصعب وتتحدى العقبات ..

الثورة أن تتقبل الآخر وإن كان كائنا فضائيا..

الثورة أن تمضي قدما و تحدث التغيير من موقعك مهما كان..

و الثورة أن تكون ياباني العقلية..

لا أرى في ذلك مستحيلا بقدر ما أرى فيه لمسات ضرورية من إرادة شديدة حقيقية ، وبعضا من الأمل وشيئا من الحلم والتفاؤل.. والكثير من الصبر والتعايش فما الذي يجعل اليابانيين قادرين على التغيير بينما نسير نحن على خطى سلحفاة؟ شكل الأعين مثلا؟!

الٱن هو موعد الاستفاقة الحقيقية من سبات طال أمده ..الآن و ليس غدا..

الجميع للواحد ..و الواحد للجميع