في رحاب الأندلس
لا أدري بالتحديد متى راودني، لأول مرة، حلم السفر إلى بلاد الأندلس… ولكن المؤكد أنه حلم قديم ساورني منذ الصغر وقد كنت غير مصدقة عندما تمكنت أخيرا وبعد طول انتظار من تحقيقه . لقد تحول الحلم إلى واقع عشته بتوفيق من الله تعالى. كان الزمن يومها صيفا شديد الحر وبطعم الصيام، فقد تصادف السفر مع شهر رمضان الكريم ، فأحببنا أن نسافر ونصطحب معنا صومنا حتى وإن كان الله قد خص الصائم المسافر برخصة الإفطار. ولكن لم يكن لنا أن نتذوق جمال وروعة الأندلس من دون طعم الصيام وروح الصلاة وحلاوة تلاوة القرآن. ألم تكن تلك الأرض الطيبة يوما ما ومنذ زمن بعيد أرضا للصيام والصلاة والقرآن؟
كانت فكرة وهدية من والدي حفظه الله وأكرمه وأطال عُمره .. لقد فكر أن يأخذنا أنا وأختي الكبرى في رحلة.. بل في مغامرة طويلة حول أوروبا وقد كانت البداية من إسبانيا..
أول محطة لنا في اسبانيا كانت مدينة “أليكونت” الواقعة جنوب إسبانيا على البحر المتوسط، فبعد رحلة لم تبلغ الساعة من الزمن فوق البحر الأبيض حطت بنا الطائرة على المطار.. بدت لنا المدينة مملّة بشوارعها الخالية من الناس وبأجوائها الهادئة حد الإزعاج… لم يكن بالإمكان أن نظل أكثر من ليلة واحدة في مدينة وجدناها بهذه الرتابة رغم جمالها، ونظافة شوارعها وتناسق حدائقها التي لا تعد ولا تحصى.الهدف كان، ومنذ البداية، واضحا بالنسبة لنا: نحن هنا لنسير على خطى الماضي المجيد و لنزور الآثار التي تركتها الحضارة الإسلامية على أرض أوروبا شاهدا على ازدهارها و عظمتها وعلى أمجادها.
الأندلس وما أدراك ما الأندلس ، تلك البقعة الطيبة والملهمة ، تلك الأرض التي تغنى بها الشعراء ورفع من أجلها الفرسان الّرّايات، تلك البلاد التي شكل فقدانها بداية انهيار الحضارة الإسلامية ومنذ ذلك اليوم البائس الذي قالت فيه أم السلطان لابنها الذي لم يعد سلطانا ” إبك…إبك كالنساء على ملك لم تحافظ عليه كالرجال”، تحولت الأندلس رمزا يختزل حسرة الضياع وعقدة لا تنفك في وجدان الأمة، وجرحا عميقا في جسدها المريض، جرحا شبيها بذلك الذي أصابها يوم أن سقطت القدس في أيدي الصهاينة ومن بعدها بغداد في أيدي حلفائهم الأمريكان.
ويتساءل المرء في قرارة نفسه أيحق للمسلم أن يعيش دون أن تطأ قدماه ولو مرة في العمر أرض الأندلس؟ هل يمكن له أن يعيد مجد الحضارة دون أن يستنشق هواء الأندلس ويسترجع عظمة تاريخه على تلك الأرض؟ فلم نعد نصدق في هذا الزمن أننا كنا يوما ما أصحاب حضارة وتاريخ، ولم نعد نؤمن أننا أحفادا لرجال شيدوا الأندلس وأبهروا بها الدنيا..
المحطة الأولى لنا في رحاب الأندلس كانت مدينة “غرناطة” حيث أمضينا نصف اليوم في “قصر الحمراء” ذلك القصر الشاهد على قمة الإبداع ورقي الحضارة الإسلامية. كان علينا أن نستيقظ مبكرا حتى نصل إلى قمة الهضبة التي أقيم عليها القصر ونسبق بهذا جموع السياح التي تعد بالمئات من كل بقاع المعمورة لزيارة القصر، بهذا نضمن الدخول إلى داخل قاعات القصر فالبطاقات كانت محدودة ولا يسمح لأكثر من 300 سائح بالدخول، هكذا كانت نصيحة صاحب الفندق الذي أقمنا عنده، رجل في قمة الطيبة والأدب، أبى إلا أن ينتظرنا رغم وصولنا في وقت متأخر من الليل إلى المدينة ، ورفض أن يخلد للنوم قبل أن ينفعنا بنصائحه التي نطقها بلغة فرنسية متلكئة لكنها واضحة ودقيقة. تعتبر “الحمراء”، بالنسبة له، أهم معالم غرناطة ولا يمكن أن يغادر الزائر المدينة من دون رؤيتها.. وفعلا تتبعنا النصيحة وفي الصباح المبكر لليوم التالي وبعد طول انتظار أمام سلسلة بشرية تزيد طولا كلما مرت الدقائق استطعنا الحصول على بطاقات الزيارة لننطلق في جولة لا تُنسى داخل القصر العتيد.
“قصر الحمراء” شيده الملك الأمازيغي باديس بن حابوس في النصف الثاني للقرن 10 الميلادي على قمة هضبة صخرية تطل على مدينة غرناطة و قد كان مخصصا لإقامة الأمير وقد استمر فيه البناء إلى القرن 13 حيث تحول إلى حصن منيع واسع. ويعتبر من أهم التحف المعمارية لضفة المتوسط و هو شاهد على رقي الهندسة المعمارية الإسلامية. ينقسم “القصر” إلى قسمين الأول هو “القصبة” وهي منطقة عسكرية مخصصة لجيش السلطان و القسم الثاني يسمى “المدينة” و يقيم فيه النبلاء وحاشية السلطان وفي قلب “الحمراء” يوجد أهم معالمها من حيث الجمال والأهمية وهي”قصر النصري” الذي خصص لإقامة بني نصر ملوك غرناطة في ذلك الزمان وكان مركزا سياسيا ودينيا مهما إلى أن سقطت المدينة في القرن 16.
في أبنية القصر التي تتميز بسمات الهندسة الإسلامية ترى الزخارف الدقيقة في أشكال هندسية تشبه تلك التي نراها على السجاد الشرقي. وعلى السقوف وأركان القاعات وعلى الأعمدة وحواف النوافذ تقرأ آيات القرآن وشعار بني نصر “لا غالب إلا الله” و أبيات من الشعر العربي مما تركه الشعراء ولا يكاد يخلو جدار أو سقف من تلك النقوش التي وبمجرد أن يقع بصرك على الواحدة منها تجد نفسك تحمل، ودون شعور منك، آلة التصوير لتلتقط لها صورا تبقى لك ذكرى شاهدة على انبهارك بها.
في قصر الحمراء تفهم ما معنى أن يكون الإسلام دين الطهر والطهارة ففي كل مكان وفي جميع جوانب الحدائق تجد قنوات المياه التي أوصلها المهندسون من نهر موجود أسفل الهضبة بطرق حيرت العلماء ولم يتمكنوا من فك لغزها إلى يومنا هذا، تصاحبك أينما ذهبت حتى وأنت على السلالم. فقد قال لنا الدليل أن أهم ما يميز الحضارة الإسلامية هو تقديرها الشديد للماء فهو رمز للحضارة وهو شرط من شروط الحياة وهو دليل على تقدير المسلمين للنظافة والصفاء بشكليهما المادي والمعنوي.. فأين نحن الآن من هذه القيم؟
بعد زيارة الحمراء وتجولنا في قاعاتها وأفنيتها ومُرورنا حول أبراجها وبرك المياه في حدائقها، عُدنا من جديد للفندق الذي يقع في وسط المدينة، كان على الصائم أن يصلي ويخلد إلى شيء من الراحة قبل أن يشد الرحال صوب وجهة جديدة..
بعد الظهيرة اخترنا أن نصعد إلى هضبة “البياسين” أو “البايزين” وهي هضبة مقابلة لهضبة “الحمراء” يمكنك منها أن تشهد لحظة الغروب وترى كيف يتوهج “قصر الحمراء” من أشعة الشمس المختفية خلف التلال وكأنه قطعة من الجمر أو بالأحرى من الذهب الخالص. يقال أن المهندسين في زمان بناء “الحمراء” كانوا يصعدون على الهضبة ليتتبعوا عملية بناء القصر ويضبطوا تناسق جوانبه وانسجامها. ما إن أنزلنا صاحب التاكسي في قمة الهضبة حتى وجدنا أنفسنا في فضاء لا مثيل له وسط جموع من السياح على ساحة شبيهة بشرفة طبيعية منها تتأمل “قصر الحمراء” ومن خلالها يمكنك أن تتسلل إلى أزقة المدينة الضيقة وممراتها الملتوية التي تصعد بك وتنزل كيفما تشاء وكأنها تتسلى معك وترحب بك لقدومك إليها زائرا.
على نفس الساحة كانت هناك كنيسة صغيرة وبسيطة البناء، تأملناها قليلا، دخلنا إليها من بابها الضيق ثم انسحبنا مباشرة فقد كانت مظلمة وبدون جمال ولا بهاء.. استغربنا من حالها فعادة ما تُرمم الكنائس ويُعتني بها لتكون وجهة للسياح ومصدرا للمال وسبيلا للدعوة.. فضلنا أن نتجاهل المكان وننطلق حيث الأزقة التي تتسلى .. في إحدى تلك الأزقة التي كنا نتجول فيها، شممنا فجأة رائحة شوربة شهية تملأ الجو .. استغربنا هل أثرّ فينا الصوم والحر إلى هذه الدرجة؟ … أم أن الناس صيام مثلنا؟ تجاهلنا الرائحة وانطلقنا في جولة وفي نيتنا العودة عند الغروب لتأمل “القصر الأحمر”، الوقت مازال عصرا وكان يجب أن نشغل أنفسنا حتى ننسى وقع الصيام في بلاد الغُربة ، بعد فترة عدنا إلى الساحة العامة لكن المنظر على الشرفة المقابلة للقصر لم يكن بمثل البهاء والسحر الذي نسجه الخيال..
تركنا الساحة من جديد وتسللنا في زقاق خلف الكنيسة وكأن مناديا ندانا أن تعالوا.. اكتشفنا هناك بُنيانا جميلا أبيض اللون ببرج مزركش بكتابة عربية تأملناها وتنافسنا على من يقرأها أولا.. “لا اله إلا الله محمد رسول الله “ كانت الجملة التي زينت أعلى حائط البرج.. بحثنا عن المدخل وجدناه وعرفنا لحظتها أننا أمام المركز الإسلامي للمدينة، إقتربنا ثم دخلنا حديقة لم نرى بمثل جمالها وتناسقها، تملأها الأشجار والنباتات و تزينها نافورة يتدفق منها ماءً عذب فرات.. رحب بنا قيم المسجد الذي اتخذ له في مدخل المسجد مكانا يبيع فيه بعض الذكريات وشراب الليمون البارد، توجهنا إلى باب قاعة الصلاة لمحَنا شاب صغير أشقر الشعر، كان إسبانيا مسلما يساعد قيم المسجد على الاهتمام بالحديقة وحراسة المكان، ففسح لنا المجال لندخل إلى قاعة الصلاة فالدخول كان ممنوعا على من لا يرتدي ثيابا محتشمة من السياح.. المكان كان عبارة عن قاعة هادئة جميلة تحفها الملائكة و يملأها النور الذي يتسرب إليها من نوافذها المطلة على الحديقة، جدرانها مزينة بزخارف متناسقة تبعث الهدوء والطمأنينة في النفس، كان مسجدا يشبه بهندسته وبديكوره تلك المساجد الموجودة في المغرب الأقصى.. دخلنا وكانت فرصتنا للوضوء بالماء البارد ولصلاة العصر، بعد الصلاة جلسنا نقرأ سورة الكهف حيث كان اليوم جمعة ثم لحظة لتأمل هيبة المكان وهدوئه فشتان بين العالم الخارجي بصخبه وضجيجه وبين هذا المكان.. كان هناك رجل أجنبي يقرأ القرآن ويتهجى به، وكانت هناك في مكان مخصص للنساء أماً سورية تجلس هي وأبنائها الصغار تشجعهم على الصبر عن الأكل إلى أن يؤذن المؤذن وقد قدمت هي وأسرتها من حماه في سورية هاربة من أتون الحرب والدمار، تعرفنا عليها ودعتنا لانتظار الإفطار فالجالية المسلمة تجتمع هنا كل مساء لتناول الإفطار وإقامة صلاة التراويح.. تعرفنا في المسجد على شاب فرنسي من أصول جزائرية جاء مثلنا لأداء صلاة العصر، وكان يعمل دليلا لفريق من السياح و يستغل وجوده معهم لدعوتهم للإسلام ..
في المساء قدر الله لنا أن نحظى بجلسة روحانية مع الجالية المسلمة حيث أقمنا مع أفرادها صلاة المغرب وتناولنا معهم الفطور فكانت الشوربة ذات الرائحة الشهية التي تسربت إلينا حين وصولنا من إحدى نوافذ المركز من نصيبنا.. عدنا للفندق بذكريات غريبة لا تنسى، عدنا لننام حتى نكمل السير في اليوم التالي باتجاه مدينة أخرى من مدن الأندلس.
وصلنا إلى محطة قرطبة ومن هناك أخذنا تاكسي إلى المدينة القديمة وهي موجودة على ضفة “واد الكبير” هكذا اسمه حتى بالإسبانية فأسماء الأمكنة القديمة كلها عربية لكنها تنطق بلكنة أروبية . في قرطبة وكما في كل مدن اسبانيا التي زرناها الحر كان شديدا جدا يتجاوز الأربعين درجة وقت الظهيرة كما كان الحال في مدينة اشبيلية. لكن وجودنا قرب نهر بعظمة “واد الكبير” أنسانا حرارة الصيف و خفف كثيرا من وطأة الجو، فالنهر كان يمر قريبا من الحي القديم الذي أقمنا فيه وكان يتدفق بكميات عظيمة من المياه تستغرب من أين تأتي كلها، كان يعزف لحنا عذبا على أوتار التاريخ والمدينة تستمع إليه كالعاشقة الولهانة. المدينة تلاطف النهر وهو يمر بقربها سعيدا فرحا يتغزل بها دون كلل ولا ملل.
اِقترح علينا صاحب الفندق – الذي أتعبنا التواصل معه كثيرا لعدم إتقانه للّغات الأجنبية – بيتا صغيرا بدل غرفة الفندق وقد قبلنا حيث وجدنا البيت في غاية الروعة شبيها بالبيوتنا في واحات مزاب فلم نشعر ونحن فيه بالغربة ولا بالملل ومباشرة بعد التخلص من الحقائب اتجهنا في جولة حول المدينة وقد وجدناها محاطة بسور مغلق إلا من أبواب قليلة بقرب إحداها تجد تمثالا شامخا للعالم والفيلسوف المسلم ابن رشد أو كما يسمي في الغرب أفيروَاس فقد ولد كالعديد من العلماء في ذلك الزمان في مدينة قرطبة .. وفيها تجد حمّام تركي ودكاكين مليئة عن آخرها بالهدايا والذكريات بالإضافة إلى مطاعم كثيرة فالناس في زماننا هذا همهم الأكل و الشرب والشراء.. في الواقع ، وجدنا المدينة تعج بمختلف الأبنية الأثرية التي تعود لمختلف الحضارات التي نشأت حول ضفة المتوسط منها قلاع تعود للعهد الإسلامي وكذلك المواقع الأثرية “كـمدينة الزهراء“، والحي اليهودي وعدد كبير من الكنائس بالإضافة لحلبات الخيل والثيران و لآثار الرومان والحدائق الكثيرة التي تزين المدينة وساحاتها. لكن أهم معالم قرطبة وأبهاها وأكثرها سحرا وجلالا “الجامع الكبير” أو ما يسمى عند سكان قرطبة “ميسكيتا” أو “الكاتدرائية” فبعد نهاية الوجود الإسلامي في الأندلس عمد الإسبان المسيحيين إلى تحويل المساجد التي كانت ترتفع فيها أصوت الآذان بكلمة التوحيد، إلى كنائس تشوهت بصلبان الشرك المعلقة على جدرانها… قررنا أن نزور الجامع في سهرتنا الرمضانية الأخيرة أي في ليلة العيد فالزيارة الليلة أغلى ثمنا لكنها أكثر بهاء و سحرا لما يصاحبها من مؤثرات صوتية وضوئية مثيرة تجعلك تشعر وكأنك انتقلت من سفر المكان إلى سفر الزمان عبر القرون و التاريخ.
قبل الإنتقال إلى الجامع لننضم إلى الفوج الزائر، إنتظرنا أن نفطر ولم نكن نعرف كيف نتأكد من الغروب إلى أن تفاجئنا حين بلغ سمعنا صوت الآذان الآتي من مطعم صغير لرجل إسباني مسلم خصص جزءا منه لقاعة الصلاة ذهبنا لزيارته في اليوم التالي في مطعمه الموجود في زقاق قريب من بيتنا الأندلسي .. مباشرة بعد الإفطار والصلاة ذهبنا مهرولين لزيارة “الجامع الكبير” فلم يكن يبعد عنا سوى مسيرة خطوات.. هناك اكتشفنا مسجدا واسعا بهيّا لم نرى مثله من قبل بأبوابه العملاقة المطلية بالذهب و بزخارفه وأشكاله الهندسية الفريدة وبالداخل اكتشفنا بهوا واسعا بـ1400 عمود بأشكال بديعة وبهندسة دائرية عجيبة ملونة بالأحمر و مزخرفة بشكل يعجز القلم عن وصفه.. بالداخل كان الدليل يشرح كيف بني المسجد على أنقاض كنيسة قديمة وكان أول من شيده الأمير الأموي واضع أسس دولة الإسلام في الأندلس عبد الرحمان الداخل واستمر بعده في الاتساع و الازدهار وازداد حجمه وعدد أعمدته في عهد أحفاد الأمير الهارب من الشام إلى أن سقطت الأندلس في أيد المسيحيين وزال حكم الإسلام عن المدينة وتحول الجامع الكبير إلى كاتدرائية عندما هدم جزء منه وغرست كما الخنجر فيه كنيسة عظيمة ومبهرة بديكورها الرخامي المنحوت بأشكال بديعة وبمقاعدها الخشبية وبزخارفها المطلية بالذهب وبتماثيلها وصلبانها المعلقة في كل جانب وعلى كل حائط وعمود.
كنا بداخل الجامع نسمع تارة قرآنا يُتلى وتارة نواقيس و أجراس الكنيسة تدق؛ أحيانا نلمح صفوف المصلين في ليلة وداع رمضان تحفهم الملائكة وهم ركعا سجدا وأحيانا أخرى لا نجد حولنا إلا فراغا مخيفا يملئ المكان صمتا وحزنا والسياح حولنا منبهرين خاشعين من جمال المكان وانضباطه وسحره الغريب.. هكذا وأنت هنا تختلط عليك المشاعر ولا تعرف كيف تفكر. خرجنا بعد ساعة عند انتهاء الزيارة بقلوب وجلة وعيون يملأها الدمع، سمعنا الجامع الكبير يودعنا ويبكي من حاله قائلا:
تـبكي الحنيفيةَ البيضاءُ من أسفٍ *** كـما بـكى لـفراق الإلفِ هيمانُ
عـلى ديـار مـن الإسلام خالية *** قـد أقـفرت ولـها بالكفر عُمرانُ
حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما *** فـيـهنَّ إلا نـواقيسٌ وصُـلبانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ *** حـتى الـمنابرُ ترثي وهي عيدانُ
في الخارج وعلى الساحة العامة كانت هناك حفلة. الناس سعداء منهم من يغني ويرقص، ومنهم من يأكل يشرب و طبعا.. لا يصل إليهم صوت البكاء الحزين وحتى إن وصل فهم لا يدركون مغزاه لأنهم يقولون في قرارة أنفسهم : إن هذا الجامع لذو حظ عظيم فلو بقي بين يدي المسلمين لكان قد هُدّم منذ زمن أو جرّاء انفجاره قنبلة يضعها أحدهم ليقتل من فيه من إخوانه المصلين أو ربما كان قد أُحرق من فئة طائفية أو ألقي عليه صاروخ من الجو أو كان قد تحول إلى مسرح جريمة يُغتال فيه عالم جليل من علماء الأمة..
توجهنا وجلسنا على “قنطرة قرطبة” التي تقع على الواد الكبير، هناك حيث الهدوء والصفاء و تسابيح مياه الغدير التي تصل إلى المسجد لتخفف عنه وطأة الحزن والوحدة.. أخيرا أدركنا العيد ولم نفرح بعيد من قبل بمثلما فرحنا بهذا العيد ..
صور الجامع الكبير
الوادي الكبير
قصر الحمراء
لا أدري بالتحديد متى راودني، لأول مرة، حلم السفر إلى بلاد الأندلس… ولكن المؤكد أنه حلم قديم ساورني منذ الصغر وقد كنت غير مصدقة عندما تمكنت أخيرا وبعد طول انتظار من تحقيقه . لقد تحول الحلم إلى واقع عشته بتوفيق من الله تعالى. كان الزمن يومها صيفا شديد الحر وبطعم الصيام، فقد تصادف السفر مع شهر رمضان الكريم ، فأحببنا أن نسافر ونصطحب معنا صومنا حتى وإن كان الله قد خص الصائم المسافر برخصة الإفطار. ولكن لم يكن لنا أن نتذوق جمال وروعة الأندلس من دون طعم الصيام وروح الصلاة وحلاوة تلاوة القرآن. ألم تكن تلك الأرض الطيبة يوما ما ومنذ زمن بعيد أرضا للصيام والصلاة والقرآن؟
كانت فكرة وهدية من والدي حفظه الله وأكرمه وأطال عُمره .. لقد فكر أن يأخذنا أنا وأختي الكبرى في رحلة.. بل في مغامرة طويلة حول أوروبا وقد كانت البداية من إسبانيا..
أول محطة لنا في اسبانيا كانت مدينة “أليكونت” الواقعة جنوب إسبانيا على البحر المتوسط، فبعد رحلة لم تبلغ الساعة من الزمن فوق البحر الأبيض حطت بنا الطائرة على المطار.. بدت لنا المدينة مملّة بشوارعها الخالية من الناس وبأجوائها الهادئة حد الإزعاج… لم يكن بالإمكان أن نظل أكثر من ليلة واحدة في مدينة وجدناها بهذه الرتابة رغم جمالها، ونظافة شوارعها وتناسق حدائقها التي لا تعد ولا تحصى.الهدف كان، ومنذ البداية، واضحا بالنسبة لنا: نحن هنا لنسير على خطى الماضي المجيد و لنزور الآثار التي تركتها الحضارة الإسلامية على أرض أوروبا شاهدا على ازدهارها و عظمتها وعلى أمجادها.
الأندلس وما أدراك ما الأندلس ، تلك البقعة الطيبة والملهمة ، تلك الأرض التي تغنى بها الشعراء ورفع من أجلها الفرسان الّرّايات، تلك البلاد التي شكل فقدانها بداية انهيار الحضارة الإسلامية ومنذ ذلك اليوم البائس الذي قالت فيه أم السلطان لابنها الذي لم يعد سلطانا ” إبك…إبك كالنساء على ملك لم تحافظ عليه كالرجال”، تحولت الأندلس رمزا يختزل حسرة الضياع وعقدة لا تنفك في وجدان الأمة، وجرحا عميقا في جسدها المريض، جرحا شبيها بذلك الذي أصابها يوم أن سقطت القدس في أيدي الصهاينة ومن بعدها بغداد في أيدي حلفائهم الأمريكان.
ويتساءل المرء في قرارة نفسه أيحق للمسلم أن يعيش دون أن تطأ قدماه ولو مرة في العمر أرض الأندلس؟ هل يمكن له أن يعيد مجد الحضارة دون أن يستنشق هواء الأندلس ويسترجع عظمة تاريخه على تلك الأرض؟ فلم نعد نصدق في هذا الزمن أننا كنا يوما ما أصحاب حضارة وتاريخ، ولم نعد نؤمن أننا أحفادا لرجال شيدوا الأندلس وأبهروا بها الدنيا..
المحطة الأولى لنا في رحاب الأندلس كانت مدينة “غرناطة” حيث أمضينا نصف اليوم في “قصر الحمراء” ذلك القصر الشاهد على قمة الإبداع ورقي الحضارة الإسلامية. كان علينا أن نستيقظ مبكرا حتى نصل إلى قمة الهضبة التي أقيم عليها القصر ونسبق بهذا جموع السياح التي تعد بالمئات من كل بقاع المعمورة لزيارة القصر، بهذا نضمن الدخول إلى داخل قاعات القصر فالبطاقات كانت محدودة ولا يسمح لأكثر من 300 سائح بالدخول، هكذا كانت نصيحة صاحب الفندق الذي أقمنا عنده، رجل في قمة الطيبة والأدب، أبى إلا أن ينتظرنا رغم وصولنا في وقت متأخر من الليل إلى المدينة ، ورفض أن يخلد للنوم قبل أن ينفعنا بنصائحه التي نطقها بلغة فرنسية متلكئة لكنها واضحة ودقيقة. تعتبر “الحمراء”، بالنسبة له، أهم معالم غرناطة ولا يمكن أن يغادر الزائر المدينة من دون رؤيتها.. وفعلا تتبعنا النصيحة وفي الصباح المبكر لليوم التالي وبعد طول انتظار أمام سلسلة بشرية تزيد طولا كلما مرت الدقائق استطعنا الحصول على بطاقات الزيارة لننطلق في جولة لا تُنسى داخل القصر العتيد.
“قصر الحمراء” شيده الملك الأمازيغي باديس بن حابوس في النصف الثاني للقرن 10 الميلادي على قمة هضبة صخرية تطل على مدينة غرناطة و قد كان مخصصا لإقامة الأمير وقد استمر فيه البناء إلى القرن 13 حيث تحول إلى حصن منيع واسع. ويعتبر من أهم التحف المعمارية لضفة المتوسط و هو شاهد على رقي الهندسة المعمارية الإسلامية. ينقسم “القصر” إلى قسمين الأول هو “القصبة” وهي منطقة عسكرية مخصصة لجيش السلطان و القسم الثاني يسمى “المدينة” و يقيم فيه النبلاء وحاشية السلطان وفي قلب “الحمراء” يوجد أهم معالمها من حيث الجمال والأهمية وهي”قصر النصري” الذي خصص لإقامة بني نصر ملوك غرناطة في ذلك الزمان وكان مركزا سياسيا ودينيا مهما إلى أن سقطت المدينة في القرن 16.
في أبنية القصر التي تتميز بسمات الهندسة الإسلامية ترى الزخارف الدقيقة في أشكال هندسية تشبه تلك التي نراها على السجاد الشرقي. وعلى السقوف وأركان القاعات وعلى الأعمدة وحواف النوافذ تقرأ آيات القرآن وشعار بني نصر “لا غالب إلا الله” و أبيات من الشعر العربي مما تركه الشعراء ولا يكاد يخلو جدار أو سقف من تلك النقوش التي وبمجرد أن يقع بصرك على الواحدة منها تجد نفسك تحمل، ودون شعور منك، آلة التصوير لتلتقط لها صورا تبقى لك ذكرى شاهدة على انبهارك بها.
في قصر الحمراء تفهم ما معنى أن يكون الإسلام دين الطهر والطهارة ففي كل مكان وفي جميع جوانب الحدائق تجد قنوات المياه التي أوصلها المهندسون من نهر موجود أسفل الهضبة بطرق حيرت العلماء ولم يتمكنوا من فك لغزها إلى يومنا هذا، تصاحبك أينما ذهبت حتى وأنت على السلالم. فقد قال لنا الدليل أن أهم ما يميز الحضارة الإسلامية هو تقديرها الشديد للماء فهو رمز للحضارة وهو شرط من شروط الحياة وهو دليل على تقدير المسلمين للنظافة والصفاء بشكليهما المادي والمعنوي.. فأين نحن الآن من هذه القيم؟
بعد زيارة الحمراء وتجولنا في قاعاتها وأفنيتها ومُرورنا حول أبراجها وبرك المياه في حدائقها، عُدنا من جديد للفندق الذي يقع في وسط المدينة، كان على الصائم أن يصلي ويخلد إلى شيء من الراحة قبل أن يشد الرحال صوب وجهة جديدة..
بعد الظهيرة اخترنا أن نصعد إلى هضبة “البياسين” أو “البايزين” وهي هضبة مقابلة لهضبة “الحمراء” يمكنك منها أن تشهد لحظة الغروب وترى كيف يتوهج “قصر الحمراء” من أشعة الشمس المختفية خلف التلال وكأنه قطعة من الجمر أو بالأحرى من الذهب الخالص. يقال أن المهندسين في زمان بناء “الحمراء” كانوا يصعدون على الهضبة ليتتبعوا عملية بناء القصر ويضبطوا تناسق جوانبه وانسجامها. ما إن أنزلنا صاحب التاكسي في قمة الهضبة حتى وجدنا أنفسنا في فضاء لا مثيل له وسط جموع من السياح على ساحة شبيهة بشرفة طبيعية منها تتأمل “قصر الحمراء” ومن خلالها يمكنك أن تتسلل إلى أزقة المدينة الضيقة وممراتها الملتوية التي تصعد بك وتنزل كيفما تشاء وكأنها تتسلى معك وترحب بك لقدومك إليها زائرا.
على نفس الساحة كانت هناك كنيسة صغيرة وبسيطة البناء، تأملناها قليلا، دخلنا إليها من بابها الضيق ثم انسحبنا مباشرة فقد كانت مظلمة وبدون جمال ولا بهاء.. استغربنا من حالها فعادة ما تُرمم الكنائس ويُعتني بها لتكون وجهة للسياح ومصدرا للمال وسبيلا للدعوة.. فضلنا أن نتجاهل المكان وننطلق حيث الأزقة التي تتسلى .. في إحدى تلك الأزقة التي كنا نتجول فيها، شممنا فجأة رائحة شوربة شهية تملأ الجو .. استغربنا هل أثرّ فينا الصوم والحر إلى هذه الدرجة؟ … أم أن الناس صيام مثلنا؟ تجاهلنا الرائحة وانطلقنا في جولة وفي نيتنا العودة عند الغروب لتأمل “القصر الأحمر”، الوقت مازال عصرا وكان يجب أن نشغل أنفسنا حتى ننسى وقع الصيام في بلاد الغُربة ، بعد فترة عدنا إلى الساحة العامة لكن المنظر على الشرفة المقابلة للقصر لم يكن بمثل البهاء والسحر الذي نسجه الخيال..
تركنا الساحة من جديد وتسللنا في زقاق خلف الكنيسة وكأن مناديا ندانا أن تعالوا.. اكتشفنا هناك بُنيانا جميلا أبيض اللون ببرج مزركش بكتابة عربية تأملناها وتنافسنا على من يقرأها أولا.. “لا اله إلا الله محمد رسول الله “ كانت الجملة التي زينت أعلى حائط البرج.. بحثنا عن المدخل وجدناه وعرفنا لحظتها أننا أمام المركز الإسلامي للمدينة، إقتربنا ثم دخلنا حديقة لم نرى بمثل جمالها وتناسقها، تملأها الأشجار والنباتات و تزينها نافورة يتدفق منها ماءً عذب فرات.. رحب بنا قيم المسجد الذي اتخذ له في مدخل المسجد مكانا يبيع فيه بعض الذكريات وشراب الليمون البارد، توجهنا إلى باب قاعة الصلاة لمحَنا شاب صغير أشقر الشعر، كان إسبانيا مسلما يساعد قيم المسجد على الاهتمام بالحديقة وحراسة المكان، ففسح لنا المجال لندخل إلى قاعة الصلاة فالدخول كان ممنوعا على من لا يرتدي ثيابا محتشمة من السياح.. المكان كان عبارة عن قاعة هادئة جميلة تحفها الملائكة و يملأها النور الذي يتسرب إليها من نوافذها المطلة على الحديقة، جدرانها مزينة بزخارف متناسقة تبعث الهدوء والطمأنينة في النفس، كان مسجدا يشبه بهندسته وبديكوره تلك المساجد الموجودة في المغرب الأقصى.. دخلنا وكانت فرصتنا للوضوء بالماء البارد ولصلاة العصر، بعد الصلاة جلسنا نقرأ سورة الكهف حيث كان اليوم جمعة ثم لحظة لتأمل هيبة المكان وهدوئه فشتان بين العالم الخارجي بصخبه وضجيجه وبين هذا المكان.. كان هناك رجل أجنبي يقرأ القرآن ويتهجى به، وكانت هناك في مكان مخصص للنساء أماً سورية تجلس هي وأبنائها الصغار تشجعهم على الصبر عن الأكل إلى أن يؤذن المؤذن وقد قدمت هي وأسرتها من حماه في سورية هاربة من أتون الحرب والدمار، تعرفنا عليها ودعتنا لانتظار الإفطار فالجالية المسلمة تجتمع هنا كل مساء لتناول الإفطار وإقامة صلاة التراويح.. تعرفنا في المسجد على شاب فرنسي من أصول جزائرية جاء مثلنا لأداء صلاة العصر، وكان يعمل دليلا لفريق من السياح و يستغل وجوده معهم لدعوتهم للإسلام ..
في المساء قدر الله لنا أن نحظى بجلسة روحانية مع الجالية المسلمة حيث أقمنا مع أفرادها صلاة المغرب وتناولنا معهم الفطور فكانت الشوربة ذات الرائحة الشهية التي تسربت إلينا حين وصولنا من إحدى نوافذ المركز من نصيبنا.. عدنا للفندق بذكريات غريبة لا تنسى، عدنا لننام حتى نكمل السير في اليوم التالي باتجاه مدينة أخرى من مدن الأندلس.
وصلنا إلى محطة قرطبة ومن هناك أخذنا تاكسي إلى المدينة القديمة وهي موجودة على ضفة “واد الكبير” هكذا اسمه حتى بالإسبانية فأسماء الأمكنة القديمة كلها عربية لكنها تنطق بلكنة أروبية . في قرطبة وكما في كل مدن اسبانيا التي زرناها الحر كان شديدا جدا يتجاوز الأربعين درجة وقت الظهيرة كما كان الحال في مدينة اشبيلية. لكن وجودنا قرب نهر بعظمة “واد الكبير” أنسانا حرارة الصيف و خفف كثيرا من وطأة الجو، فالنهر كان يمر قريبا من الحي القديم الذي أقمنا فيه وكان يتدفق بكميات عظيمة من المياه تستغرب من أين تأتي كلها، كان يعزف لحنا عذبا على أوتار التاريخ والمدينة تستمع إليه كالعاشقة الولهانة. المدينة تلاطف النهر وهو يمر بقربها سعيدا فرحا يتغزل بها دون كلل ولا ملل.
اِقترح علينا صاحب الفندق – الذي أتعبنا التواصل معه كثيرا لعدم إتقانه للّغات الأجنبية – بيتا صغيرا بدل غرفة الفندق وقد قبلنا حيث وجدنا البيت في غاية الروعة شبيها بالبيوتنا في واحات مزاب فلم نشعر ونحن فيه بالغربة ولا بالملل ومباشرة بعد التخلص من الحقائب اتجهنا في جولة حول المدينة وقد وجدناها محاطة بسور مغلق إلا من أبواب قليلة بقرب إحداها تجد تمثالا شامخا للعالم والفيلسوف المسلم ابن رشد أو كما يسمي في الغرب أفيروَاس فقد ولد كالعديد من العلماء في ذلك الزمان في مدينة قرطبة .. وفيها تجد حمّام تركي ودكاكين مليئة عن آخرها بالهدايا والذكريات بالإضافة إلى مطاعم كثيرة فالناس في زماننا هذا همهم الأكل و الشرب والشراء.. في الواقع ، وجدنا المدينة تعج بمختلف الأبنية الأثرية التي تعود لمختلف الحضارات التي نشأت حول ضفة المتوسط منها قلاع تعود للعهد الإسلامي وكذلك المواقع الأثرية “كـمدينة الزهراء“، والحي اليهودي وعدد كبير من الكنائس بالإضافة لحلبات الخيل والثيران و لآثار الرومان والحدائق الكثيرة التي تزين المدينة وساحاتها. لكن أهم معالم قرطبة وأبهاها وأكثرها سحرا وجلالا “الجامع الكبير” أو ما يسمى عند سكان قرطبة “ميسكيتا” أو “الكاتدرائية” فبعد نهاية الوجود الإسلامي في الأندلس عمد الإسبان المسيحيين إلى تحويل المساجد التي كانت ترتفع فيها أصوت الآذان بكلمة التوحيد، إلى كنائس تشوهت بصلبان الشرك المعلقة على جدرانها… قررنا أن نزور الجامع في سهرتنا الرمضانية الأخيرة أي في ليلة العيد فالزيارة الليلة أغلى ثمنا لكنها أكثر بهاء و سحرا لما يصاحبها من مؤثرات صوتية وضوئية مثيرة تجعلك تشعر وكأنك انتقلت من سفر المكان إلى سفر الزمان عبر القرون و التاريخ.
قبل الإنتقال إلى الجامع لننضم إلى الفوج الزائر، إنتظرنا أن نفطر ولم نكن نعرف كيف نتأكد من الغروب إلى أن تفاجئنا حين بلغ سمعنا صوت الآذان الآتي من مطعم صغير لرجل إسباني مسلم خصص جزءا منه لقاعة الصلاة ذهبنا لزيارته في اليوم التالي في مطعمه الموجود في زقاق قريب من بيتنا الأندلسي .. مباشرة بعد الإفطار والصلاة ذهبنا مهرولين لزيارة “الجامع الكبير” فلم يكن يبعد عنا سوى مسيرة خطوات.. هناك اكتشفنا مسجدا واسعا بهيّا لم نرى مثله من قبل بأبوابه العملاقة المطلية بالذهب و بزخارفه وأشكاله الهندسية الفريدة وبالداخل اكتشفنا بهوا واسعا بـ1400 عمود بأشكال بديعة وبهندسة دائرية عجيبة ملونة بالأحمر و مزخرفة بشكل يعجز القلم عن وصفه.. بالداخل كان الدليل يشرح كيف بني المسجد على أنقاض كنيسة قديمة وكان أول من شيده الأمير الأموي واضع أسس دولة الإسلام في الأندلس عبد الرحمان الداخل واستمر بعده في الاتساع و الازدهار وازداد حجمه وعدد أعمدته في عهد أحفاد الأمير الهارب من الشام إلى أن سقطت الأندلس في أيد المسيحيين وزال حكم الإسلام عن المدينة وتحول الجامع الكبير إلى كاتدرائية عندما هدم جزء منه وغرست كما الخنجر فيه كنيسة عظيمة ومبهرة بديكورها الرخامي المنحوت بأشكال بديعة وبمقاعدها الخشبية وبزخارفها المطلية بالذهب وبتماثيلها وصلبانها المعلقة في كل جانب وعلى كل حائط وعمود.
كنا بداخل الجامع نسمع تارة قرآنا يُتلى وتارة نواقيس و أجراس الكنيسة تدق؛ أحيانا نلمح صفوف المصلين في ليلة وداع رمضان تحفهم الملائكة وهم ركعا سجدا وأحيانا أخرى لا نجد حولنا إلا فراغا مخيفا يملئ المكان صمتا وحزنا والسياح حولنا منبهرين خاشعين من جمال المكان وانضباطه وسحره الغريب.. هكذا وأنت هنا تختلط عليك المشاعر ولا تعرف كيف تفكر. خرجنا بعد ساعة عند انتهاء الزيارة بقلوب وجلة وعيون يملأها الدمع، سمعنا الجامع الكبير يودعنا ويبكي من حاله قائلا:
تـبكي الحنيفيةَ البيضاءُ من أسفٍ *** كـما بـكى لـفراق الإلفِ هيمانُ
عـلى ديـار مـن الإسلام خالية *** قـد أقـفرت ولـها بالكفر عُمرانُ
حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما *** فـيـهنَّ إلا نـواقيسٌ وصُـلبانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ *** حـتى الـمنابرُ ترثي وهي عيدانُ
في الخارج وعلى الساحة العامة كانت هناك حفلة. الناس سعداء منهم من يغني ويرقص، ومنهم من يأكل يشرب و طبعا.. لا يصل إليهم صوت البكاء الحزين وحتى إن وصل فهم لا يدركون مغزاه لأنهم يقولون في قرارة أنفسهم : إن هذا الجامع لذو حظ عظيم فلو بقي بين يدي المسلمين لكان قد هُدّم منذ زمن أو جرّاء انفجاره قنبلة يضعها أحدهم ليقتل من فيه من إخوانه المصلين أو ربما كان قد أُحرق من فئة طائفية أو ألقي عليه صاروخ من الجو أو كان قد تحول إلى مسرح جريمة يُغتال فيه عالم جليل من علماء الأمة..
توجهنا وجلسنا على “قنطرة قرطبة” التي تقع على الواد الكبير، هناك حيث الهدوء والصفاء و تسابيح مياه الغدير التي تصل إلى المسجد لتخفف عنه وطأة الحزن والوحدة.. أخيرا أدركنا العيد ولم نفرح بعيد من قبل بمثلما فرحنا بهذا العيد ..
صور الجامع الكبير
الوادي الكبير
قصر الحمراء