يقول الله تبارك وتعالى: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً
فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب
سود" (سورة فاطر: الآية 27).
يصنف علماء الجيولوجيا الجبال تبعًا لصخورها
الغالبة على تركيبها إلى ثلاثة أقسام رئيسية: هي جبال رسوبية طبقية، وهي المشار
إليها في الآية الكريمة بـ "جدد بيض". وجبال قاعدية متبلورة متحولة وهي المشار
إليها في الآية الكريمة "وحمر مختلف ألوانها". وجبال بركانية غير متحولة نارية، وهي
المشار إليها في الآية الكريمة بـ "غرابيب سود".
وإذا كان جمهور المفسرين
قد ذهبوا إلى أن "جدد" هي الخطط أو الطرق أو الطرائق، فإن من معناها العلمي
(الطبقات)، وهذه إحدى خصائص الجبال الرسوبية، إذ هي جبال تكونت بترسيب طبقات فوق
بعضها على مر الزمان، وهي "بيض" لأن اللون الغالب عليها هو الأبيض، وهو ما توصل
إليه علماء الجيولوجيا، فالجبال الرسوبية إن لم تكن بيضاء فإن لونها يتحول إلى
الأبيض بمرور الزمن، ويذكر المتخصصون من صخور هذه الجبال أنواعًا يغلب عليها اللون
الأبيض مع وجود بعض الشوائب، ومن هذه الصخور: دياتوميت، وأوبوكا، وليوسيت، وبوكسيت،
وكوارتز، وأميانت، وأورثوكلاس، وأنهاريت،… إلخ.
أما الجبال الحمراء التي
ورد ذكرها في الآية الكريمة بـ"حمر مختلف ألوانها"، فيفسر المتخصصون ألوانها إلى
شيوع عنصر الحديد فيها، وهو الذي يتأكسد، فيظهر الصخر بلون أحمر، ويصاحب الحديد
معادن فلزية أخرى كالنحاس والرصاص، وتختلف نسب وجودها، وبالتالي فاللون الأحمر ذو
درجات، وليس أحمر قانيًا أو محضًا.
أما الجبال النارية (البركانية) غير المتبلورة، فيشيع اللون
الأسود الغربيب عليها، ويعتبر البازلت هو الغالب في هذه الجبال، ويؤكد المتخصصون
أنها أكثر الصخور القاعدية انتشارًا، وتشكل حمم الهضاب وكذلك الجبال البركانية
(النارية) التي غالبًا ما تكون على شكل مخاريط. ويعرف معجم المصطلحات الجغرافية
للدكتور "يوسف توني" البازلت بأنه صخر ناري أسود اللون، له عدة أنواع، يتكون بفعل
تجمد اللافا (الصهارة)،وأهم خصائصه أنه غير بلوري الذرات. والجبال النارية ليس لها
سوى اللون الأسود، لأنها –بحكم طريقة تكوينها البركاني- لم يتعرض لإضافة أشياء
(مخاليط) إليها.
وهناك من معاني اللفظة القرآنية "جدد" الجدة، بمعنى الشيء
المتجدد، والجد بمعنى الغنى، وعلى هذا يرجح نفر من العلماء معنى التجدد والغنى في
اللفظة القرآنية "جدد"، ويستدلون على صحة ما يرجحونه بأن جبال الجليد الهائلة
المتجمدة منذ مئات الملايين من السنين تشكل 90% من مخزون المياه في كوكب الأرض، كما
أن جبال المعادن النفيسة والأحجار الكريمة والرخام، ذات الألوان المختلفة، تعد
مصادر ثروة للبشر، ويقول علماء الجيولوجيا إنها تتجدد ببطء مع مرور الزمن، برغم ما
يؤخذ منها عن طريق العوامل الطبيعية أو بيد الإنسان، فكلما استنزفت قممها ارتفعت
جذورها من الأعماق، فعوضت (أي: جددت) ما استنزف منها..
الماء وألوان الصخور
:
فكما أن الماء له دور محوري في ألوان الثمرات (النباتات)، فإن له دورًا
أيضًا في ألوان الجبال.
ويمكن عرض موجز ما توصل المتخصصون إليه في النقاط
التالية:
تظهر ألوان الصخور (ومن ثم ألوان الجبال) نتيجة لألوان المعادن
الموجودة بها، ويتوقف لون المعدن على التركيب الكيميائي له وظروف البيئة التي يتكون
فيها، إن كانت مؤكسدة أم غير ذلك. وتتغير ألوان المعادن بامتصاصها لكمية من الطاقة
أو الموجات الضوئية، وأشد المعادن تأثرًا بذلك المعادن المحتوية لفلزات انتقالية
مثل الحديد والكروم والمنجنيز، وتتغير ألوانها بظاهرة الامتصاص فيما يسمى "نظرية
المجال البللوري"
ولما كان الماء أكثر السوائل انتشارًا (وخصوصًا السوائل ذات
الكثافة المنخفضة)، وأكثر السوائل مقدرة على الإذابة، وأكثرها مقدرة على النقل،
وأفضل العوامل المساعدة في تفاعلات المعادن السيليكاتية في الصهارة (الماجما)،
وأفضل العوامل المساعدة في تحويل الصخور من نارية أو رسوبية إلى متحولة، فإنه يتدخل
في تحديد ألوان الصخور بتدخله في عمليات جيولوجية خارجية وعمليات جيولوجية داخلية.
أما العمليات الخارجية فتستمد الطاقة اللازمة لحدوثها من الشمس، وأهمها عملية
التجوية (Weathering) وعملية الترسيب (Sedimentation)، ويتدخل الماء في تغيير ألوان
معادن كالفلسبار والبيروكسين والهورينلند والميكا، ويتدخل في أكسدة المعادن
الحديدية فينتج مثلاً معدن الجوسان (Gossans) من الأكاسيد الحديدية المائية، وهي
الأكاسيد التي يحدد محتواها المائي ألوان المعادن الناتجة عنها. كما أن الماء يقوم
بدور ضروري في تحويل العديد من المعادن الأولية إلى معادن ثانوية ذات التراكيب
الكيميائية والألوان العديدة، مثل المعدن الأولي المسمى يورانينيت ذي اللون الأسود
الداكن، الذي يتحد بأيونات وكتيونات عديدة فينتج أكثر من مائة معدن ثانوي ذات ألوان
جميلة.
كما تذوب عناصر مثل الحديد والمنجنيز في الماء، ويعاد توزيعها على
أسطح الحبيبات والبللورات، ومن ثم تصطبغ هذه الحبيبات والبللورات بألوان حمراء أو
بنية أو بنفسجية أو غيرها من الألوان. وتحدث في المناطق غزيرة الأمطار عمليات
التجوية الكيميائية حيث يغسل الماء المعادن، فتتبقى منها رواسب مثل الهيروكسيدات
والسيليكات المتميهة والكاولين والبوكسيت (الألومنيوم الخام) والحديد والنيكل.
وأما دور الماء في تغيير ألوان الصخور (ومن ثم ألوان الجبال) عن طريق تدخله
في عمليات الترسيب، فهو دور واضح جدًّا؛ إذ تتبلور المعادن نتيجة التبخر، فتصطبغ
بألوان معينة ويتوقف هذا على محتواها المائي (مثل الإنهيدريت والجيبسوم)، وتتكون
رسوبيات غروية (colloidal sediments) في أثناء فعل عمليات التجوية، وتجري في الماء
وتتجدد بأيونات معينة، وكذلك يتكون الكثير من المواد اللاصقة التي تربط فيما بين
الحبيبات المنقولة إلى أحواض الترسيب، فتكسب الصخور ألوانًا مميزة، ومن هذه الصخور:
الحجر الرملي الحديدي..
وإذا كانت هناك عمليات جيولوجية خارجية تجدد ألوان
الصخور، فهناك أيضًا عمليات جيولوجية داخلية، وهي العمليات التي تستمد الطاقة
اللازمة لحدوثها من حرارة باطن الأرض، وتتكون المعادن فيها من الصهارة، وبالتالي
يكون للماء –وهو من مكونات الصهارة- دور كبير في جميع مراحل التبلور، كخفضه لدرجة
حرارة التبلور، وتأثيره في لزوجة الصهارة وبالتالي خروجها على شكل صخور بركانية من
الأرض أو بقائها لتتبلور في أعماق الأرض؛ وتأثيره في درجة تأكسد الحديد، وتحديد نسب
الحديديك إلى الحديدوز، وهي النسب التي تحدد ألوان الصخور البركانية؛ وتدخله في
تركيب أنواع كثيرة من البللورات التي تنفصل من الصهارة؛ وارتفاع نسبة وجوده في
الصهارة يؤدي إلى تكوين معادن مثل الأمفيبول والميكا، وقلته في البللورات المتكونة
تؤدي إلى تركيز عناصر ذات قيمة اقتصادية (للإنسان) في تحاليل حرمائية (hydrothermal
solutions) تترسب منها فيما بعد معادن ذات ألوان مختلفة.