التناقض بين السلوك والمنهج
الدكتور عماد
عطا البياتي
أخصائي طب المجتمع
رأيت الليلة
في المنام..
أحد الأصدقاء القدماء ولم استطع النوم بعدها ورحت أتذكر
أحداث ومواقف دارت بيننا منذ زمن بعيد.. قمت من فراشي ثم توضأت وصليت ركعتين
خفيفتين ورحت أكتب قصتي معه.
كنت شابا..
بعمر سبعة عشر عاما تقريبا عندما دخلت
المسجد الذي يقع قريبا من مسكني للصلاة ولأول مرة في حياتي، وأذكر كم كنت خائفا
ومرتبكا حينها وكنت أتلفت كثيرا في الصلاة ولا أتقنها جيدا وأتحرج من نظرات
المصلين. زاد ترددي إلى هذا المسجد وبدأت أتعرف على بعض المصلين. وكنت أتصور أن
المصلين في هذا المسجد كالملائكة، فهم غاية في التقوى والورع والزهد والإيمان،
وكانت كلماتهم غاية في الروعة والمثالية ولم أسمع هكذا كلمات جميلة من قبل (جزاك
الله خير، بارك الله فيك، تقبل الله أخي..)، وغيرها من الكلمات العذبة الآسرة لي في
ذلك الوقت (ثم تبين لي بعد ذلك مدى فداحة هذا الخطأ في التقييم والتصور وكم أن داء
التناقض بين السلوك والمنهج مستشري ومتوطن بين المصلين الملتزمين في
الظاهر).
كنت ألحظ..
هذا الصديق وهو يترصدني بنظراته ويحرص على أن يسلم علي بعد
كل صلاة، ويطلب مني التمشي قليلا بعد الخروج من المسجد ليحدثني حديثا مشوقا أحيانا
ومملا أحيانا أخرى، ولكني كنت أحترمه وأجامله على حساب راحتي كونه سبقني في الصلاة
والإلتزام الظاهري بالإسلام ومعلوماته النظرية عن الإسلام أوسع من
معلوماتي.
كان يريد أن يتقرب مني ولكن بحذر شديد مخافة أن أنفر منه دون أن يعلم أن في
داخلي رغبة شديدة في التقرب منه والاندماج مع مجتمع المصلين، هذا المجتمع الرائع
المثالي كما كنت أظن حينها (ثم تبين لي خطأ هذا الظن بعد حين)، والنهل من معلوماتهم
وخبراتهم عن الإسلام وتعاليمه وعن الكتب الإسلامية الجيدة المفيدة التي أستطيع أن
أستعيرها منهم وأقرأها لأتفقه في هذا الدين الرائع
العظيم.
ازدادت اللقاءات..
وتطورت إلى أشكال وصيغ شتى
وتوثقت العلاقة بيننا واتخذت شكل وهيئة العلاقة بين الأستاذ والتلميذ أو المعلم
والمتعلم أو الموجه والمتلقي، رغم فارق السن البسيط التي بيننا بحكم السبق في
الإسلام والثقافة الإسلامية. توطدت هذه العلاقة مع هذا الصديق ومع أصدقاء آخرين
مصلين في نفس المسجد وكان بينهم نوع من الترتيب البسيط على هيئة مجموعة
صغيرة.
ازدادت اللقاءات والنشاطات والفعاليات المتنوعة مع الصديق ومع المجموعة وزاد
معها اطلاعي وفهمي واستيعابي بحكم القراءة الكثيفة النهمة لكل ما يتوفر تحت اليد من
كتب إسلامية، وراح هذا الصديق والمجموعة يوجهاني إلى قراءة وثقافة إسلامية باتجاه
مدرسة إسلامية دعوية معينة تعرفت خلالها على كتب إسلامية لأسماء مثل (..... )
وغيرهم رحمهم الله تعالى.
وبعد القراءة
والاطلاع..
بدأت أفهم فكرة هذه المجموعة التي انتميت لها (دون أن أدري)، بل لقد
اعتبرتني هذه المجموعة جندي من جنود الله ثقافة وأخلاقا وتخطيطا كباقي أفراد
المجموعة ولكن بمرتبة دون مرتبة القادة والموجهين والتي يحتل فيها هذا الصديق
المرتبة الثانية من بينهم.
لكن تلك الإطلاعات وهذا الدور الجديد لم يضف لسلوكي الشيء
الكثير، وتأدية حركات الصلاة والتلفظ اللساني بالتسبيحات والآيات القرآنية والتنمق
بالكلام وذكر أسماء الرجال الذين ذكرتهم والتباهي بمعرفة أسماء كتبهم التي ألفوها
والتشدق بقرائتها لم يكن يعني لي الشيء الكثير في قرارة نفسي التائهة، بل ولّد
شعورا رهيبا بالخزي والندم من هذا التناقض الكبير الرهيب المخجل الذي أنا عليه بين
السلوك والمنهج، أي بين سلوكي الفعلي الحقيقي الذي أعرفه أكثر من غيري ومن الصديق
والمجموعة وبين السلوك المفترض أن يتحلى به جندي الله
حقيقة.
كنت لا أعرف إسما لهذا الشعور المؤلم ولا أستطيع أن أصفه بدقة أو أعبر عنه،
ولكني كنت أشعر به بكل قوة ووضوح، ولم أجد من بين متصدري هذه المجموعة من يستطيع أن
ينتبه لشعوري هذا أو أن يتفهمه.
استمر هذا الحال..
كما كان عليه ثم حدث شيء مميز لي
وللصديق وللمجموعة إذ قررت المجموعة أن تتبع منهجا ثقافيا مثبتا في إحدى الكتب
المعتمدة في هذه المدرسة، وكان من بين الكتب التي يجب دراستها ضمن هذا المنهج كتاب
"جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم" للعلامة ابن رجب الحنبلي
رحمه الله تعالى. تدارسنا الأحاديث النبوية الشريفة العظيمة العطرة المثبتة في هذا
الكتاب الرائع مع شرحها المؤمن البديع فأحسست بفائدة عظيمة جدا وتأثرت به كثيرا
وأحسست ولأول مرة منذ سنين بأن معاني هذا الكتاب الإيمانية التربوية الرفيعة وببركة
حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم بدأت تؤثر إيجابيا في سلوكي الأعوج المنحرف والذي
لم تنفعه كثيرا كل القراءات والاطلاعات والمواعظ والعبادات
السابقة.
ولهذا السبب بالذات..
أحببت كثيرا هذا الكتاب وهذا
الصديق. أحسست بأن هذا الصديق قد تأثر أيضا بالكتاب وأن حاله قد تغير للأحسن وبدأ
يستعمل المعاني التي تعلمناها سوية في هذا الكتاب أثناء كلامه وأرشاده للمجموعة
كونه الرجل الثاني فيها، وبدأت تطفوا إلى السطح مشاكل وخلافات ومشاحنات بينه وبينهم
ثم قرر فجأة هذا الصديق ترك المجموعة والرحيل إلى بلد بعيد يعاني من اضطرابات وحروب
طاحنة بسبب وجود محتل ملحد غاصب.[/size
.