الشاعر وجمهوره..
حسين بافقيه |
نقرأ في كتاب «شوقي شاعر العصر الحديث» للعلّامة شوقي ضيف كلامًا نبصر به العصر والثَّقافة، وأهمُّ ما فيه أنَّه يجلو لنا كيف تهيَّأ لأحمد شوقي، حين اتَّصل شِعره بالصَّحيفة والمطبعة، أن يغدو «شاعر الجمهور»، فوق ما هو «شاعر البلاط»، في كلام عميق، هو عندي أدنى صلةً بعلم اجتماع الأدب، وإنْ لم يخلع العلَّامة الجليل على بحثه ذلك الاسم.
مَهَّدت المطبعة والصِّحافة والكتاب المطبوع لعصر جديد، أظهر خصائصه، مولد المثقَّف الحديث والجمهور الذي يقصده بفكره وأدبه، والرَّأي العام الذي أذكتْه الطِّباعة وأصبح قوَّة لها شأنها وخطرها، وبدأت معالم الدَّولة الحديثة تستعلن، وتكابد الشعوب وقادة الرَّأي من أجل دولة يؤول أمرها ومصيرها إلى الشَّعب، بمجالسه النِّيابيَّة، وصحافته الحُرَّة، وقراره المستقل، وأحسَّ القائمون على مقاليد الـحكم والسِّياسة بذلك التَّبدُّل والتَّحوُّل، أحجمُوا، حينًا، وأقدموا حينًا آخر، وعاش أولئك السَّلاطين مخاض الخضرمة، بين تراث ضخم يُزَكِّي الاستبداد والأثرة، وعصر استكشف فيه أهلوه أنَّ لهم حقوقًا وعليهم واجبات، وأنَّ بين الحاكمين والمحكومين عقدًا اجتماعيًّا لا ينبغي لأحد أن يَحيد عنه، وفَسَحتْ لهم المطبعة والصِّحافة ما كان مضنونًا عليهم، فنشطوا يستقبلون الأفكار جديدةً فَتِيَّة، في الفلسفة والسِّياسة والاقتصاد والاجتماع والفنون والآداب.
وحيثما ولَّيْتَ وجهك في ذلك العصر فإنَّك واجد أثر المطبعة والصِّحافة في الفِكْر وفي النَّاس، وأَطْرَفُ ما يُسَاق، هنا، أن نمسك بأثارة من المثقَّف الحديث في شِعْر أحمد شوقي، وقدْ وُلِدَ – كما قال – في باب إسماعيل، وللقصْر وساكنه يَدٌ عليه سَلَفَتْ، ولم يَكُنْ ليُرْضِيَ أَثَرَته إلا أن يسوق المديح في سيِّده، حتَّى أنشأ يقول:
شَاعِرُ العَزِيزِ وَمَا
بِالقَلِيلِ ذَا اللَّقَبُ
ومع ذلك فإنَّ شِعْره يَصْلُح دليلًا على تَرَجُّح الشَّاعر العربي الحديث بين تقاليد عريقة في شِعْر المديح ورُسُوم البلاط، ومعالِم جديدة لثقافة حديثة أشاح بوجهه عنها، حِينًا، ثمّ لم يلبثْ أنْ عَنَا لها وخضع. فشوقي كان شاعر العزيز وشاعر الجمهور معًا، يَخُصّ سيِّده في القصْر بِمِدْحة، ولا يَلْبَثُ القُرَّاء في مصر وغيرها أنْ يقْرأوا مِدْحَته منشورة في صدر الصَّفحة الأولى مِنْ صحيفة الأهرام. انتفع بالقصر، وانتفع بالصِّحافة، وعَرَف شِعْره طريقه إلى المطبعة، خالفه الـحَظّ فتنكَّر لثورة الشَّعْب، واستقبَل زعيم الثَّورة أحمد عرابيّ، حِين آب مِنْ منفاه، شَرّ استقبال:
صَغَارٌ فِي الذِّهَابِ وَفِي الإِيَابِ
أَهَذَا كُلُّ شَأْنِكَ يَا عُرَابِي
وينبئنا شوقي ضيف أنْ ليس بين أحمد شوقي وعُرَابي ثأر، إنَّما الثَّأْر بين عُرَابي وسادة القَصْر، فـ«شوقي لم يكنْ يَشْعُر شعور الشَّعْب، وإنَّما كان يَشْعُر شُعُور القَصْر، وكان القَصْر غاضبًا على عُرَابي منذ توفيق، فَغَضِبَ شوقي عليه، ولم يَخْجَلْ أن يَرْمي البطل وهو صريع».
ونقرأ عند العلَّامة الجليل تفسيرًا ذكيًّا لترجُّح أحمد شوقي بين القصر والجمهور. كان في بُدَاءة أمره لا يُشْرك بعزيز مِصْر مِنَ النَّاس أحدًا، ثمّ تَحَوَّل عنْ مصر طلبًا للعِلْم في باريس، فثقِف آداب الغرب وعرف، ثمَّة، خطر المطبعة، وما إنْ يهبط مصر حتَّى ينشر الجزْء الأوَّل مِنَ «الشَّوقيَّات»، وتستميله الصِّحافة إلى بلاطها، فَيُذِيع شِعْره فيها، لكنَّه لم يتنكَّرْ لسيِّد القصر، فرتع في نِعْمته، واكتشف عظمة شعبه فرمَى عنْ قوسه، وحاز رِضَا القَصْر والجماعة المصريَّة بل العربيَّة، حتَّى لَيَصحّ القول: إنَّ شِعْر شوقي سِجِلّ للحياة العربيَّة الحديثة في مختلف شؤونها، ويكفي أنْ نَعْرِف أنَّ شوقيًّا الذي استقبل الزَّعيم الوطنيّ أحمد عُرَابي شَرَّ استقبال، يختم قصيدته العظيمة «توت عنخ أمون» بهذين البيتين:
زَمَانُ الفَرْدِ – يَا (فِرْعَوْنُ) – وَلَّى
وَدَالَتْ دَوْلةُ الـمُتَجَبِّرِينَا
وَأَصْبَحَتِ الرُّعَاةُ بِكُلِّ أَرْضٍ
عَلَى حُكْمِ الرَّعِيَّةِ نَازلِينَا
أخيرًا، آن لي أنْ أَصِل ما بين شاعرنا القديم الذي ملأ الخليفة فمه بالجواهر، وخلع عليه خِلْعة سَنِيَّة، والمثقَّف المعاصر الذي قصد بأدبه وفِكْره قارئًا لا يعْرفه، ولكنَّه يُجِلُّه، ويَعْرف له خطره في حياة الأُمَّة، وهو اختلاف عميق بين عصرين: عصْر قديم وعصر حديث، وفِكْرَيْن: فكْر صاغتْه مُصَنَّفات الأحكام السُّلْطانية وعهد أردشير وأدب النَّديم، وفِكْر نَمَتْه الفلسفة الحديثة، وصيحات قادة الرَّأي في الغرب والشَّرق، وذلك الاختلاف مَنَح المثقَّف الحديث فسحة واسعة لِيُنْشِئ آثاره خالصة للفِكْر أو الأدب، لا يُهِمّه إلَّا الحقّ وإلَّا قارئه الَّذي يرْضَى للحقّ ويَسْخط له، وهو، في العامِّ مِنْ حاله، يعيش مِنْ وظيفته التي يَمْنَحها سحابة نهاره، وحِين يؤوب إلى بيته يَنْفَح أهله وأبناءه ما اقتناه مِنْ كَدِّه ومِنْ تَعبه، بعيدًا عن البلاط وثقافته
(*) .كاتب سعودي
حسين بافقيه |
نقرأ في كتاب «شوقي شاعر العصر الحديث» للعلّامة شوقي ضيف كلامًا نبصر به العصر والثَّقافة، وأهمُّ ما فيه أنَّه يجلو لنا كيف تهيَّأ لأحمد شوقي، حين اتَّصل شِعره بالصَّحيفة والمطبعة، أن يغدو «شاعر الجمهور»، فوق ما هو «شاعر البلاط»، في كلام عميق، هو عندي أدنى صلةً بعلم اجتماع الأدب، وإنْ لم يخلع العلَّامة الجليل على بحثه ذلك الاسم.
مَهَّدت المطبعة والصِّحافة والكتاب المطبوع لعصر جديد، أظهر خصائصه، مولد المثقَّف الحديث والجمهور الذي يقصده بفكره وأدبه، والرَّأي العام الذي أذكتْه الطِّباعة وأصبح قوَّة لها شأنها وخطرها، وبدأت معالم الدَّولة الحديثة تستعلن، وتكابد الشعوب وقادة الرَّأي من أجل دولة يؤول أمرها ومصيرها إلى الشَّعب، بمجالسه النِّيابيَّة، وصحافته الحُرَّة، وقراره المستقل، وأحسَّ القائمون على مقاليد الـحكم والسِّياسة بذلك التَّبدُّل والتَّحوُّل، أحجمُوا، حينًا، وأقدموا حينًا آخر، وعاش أولئك السَّلاطين مخاض الخضرمة، بين تراث ضخم يُزَكِّي الاستبداد والأثرة، وعصر استكشف فيه أهلوه أنَّ لهم حقوقًا وعليهم واجبات، وأنَّ بين الحاكمين والمحكومين عقدًا اجتماعيًّا لا ينبغي لأحد أن يَحيد عنه، وفَسَحتْ لهم المطبعة والصِّحافة ما كان مضنونًا عليهم، فنشطوا يستقبلون الأفكار جديدةً فَتِيَّة، في الفلسفة والسِّياسة والاقتصاد والاجتماع والفنون والآداب.
وحيثما ولَّيْتَ وجهك في ذلك العصر فإنَّك واجد أثر المطبعة والصِّحافة في الفِكْر وفي النَّاس، وأَطْرَفُ ما يُسَاق، هنا، أن نمسك بأثارة من المثقَّف الحديث في شِعْر أحمد شوقي، وقدْ وُلِدَ – كما قال – في باب إسماعيل، وللقصْر وساكنه يَدٌ عليه سَلَفَتْ، ولم يَكُنْ ليُرْضِيَ أَثَرَته إلا أن يسوق المديح في سيِّده، حتَّى أنشأ يقول:
شَاعِرُ العَزِيزِ وَمَا
بِالقَلِيلِ ذَا اللَّقَبُ
ومع ذلك فإنَّ شِعْره يَصْلُح دليلًا على تَرَجُّح الشَّاعر العربي الحديث بين تقاليد عريقة في شِعْر المديح ورُسُوم البلاط، ومعالِم جديدة لثقافة حديثة أشاح بوجهه عنها، حِينًا، ثمّ لم يلبثْ أنْ عَنَا لها وخضع. فشوقي كان شاعر العزيز وشاعر الجمهور معًا، يَخُصّ سيِّده في القصْر بِمِدْحة، ولا يَلْبَثُ القُرَّاء في مصر وغيرها أنْ يقْرأوا مِدْحَته منشورة في صدر الصَّفحة الأولى مِنْ صحيفة الأهرام. انتفع بالقصر، وانتفع بالصِّحافة، وعَرَف شِعْره طريقه إلى المطبعة، خالفه الـحَظّ فتنكَّر لثورة الشَّعْب، واستقبَل زعيم الثَّورة أحمد عرابيّ، حِين آب مِنْ منفاه، شَرّ استقبال:
صَغَارٌ فِي الذِّهَابِ وَفِي الإِيَابِ
أَهَذَا كُلُّ شَأْنِكَ يَا عُرَابِي
وينبئنا شوقي ضيف أنْ ليس بين أحمد شوقي وعُرَابي ثأر، إنَّما الثَّأْر بين عُرَابي وسادة القَصْر، فـ«شوقي لم يكنْ يَشْعُر شعور الشَّعْب، وإنَّما كان يَشْعُر شُعُور القَصْر، وكان القَصْر غاضبًا على عُرَابي منذ توفيق، فَغَضِبَ شوقي عليه، ولم يَخْجَلْ أن يَرْمي البطل وهو صريع».
ونقرأ عند العلَّامة الجليل تفسيرًا ذكيًّا لترجُّح أحمد شوقي بين القصر والجمهور. كان في بُدَاءة أمره لا يُشْرك بعزيز مِصْر مِنَ النَّاس أحدًا، ثمّ تَحَوَّل عنْ مصر طلبًا للعِلْم في باريس، فثقِف آداب الغرب وعرف، ثمَّة، خطر المطبعة، وما إنْ يهبط مصر حتَّى ينشر الجزْء الأوَّل مِنَ «الشَّوقيَّات»، وتستميله الصِّحافة إلى بلاطها، فَيُذِيع شِعْره فيها، لكنَّه لم يتنكَّرْ لسيِّد القصر، فرتع في نِعْمته، واكتشف عظمة شعبه فرمَى عنْ قوسه، وحاز رِضَا القَصْر والجماعة المصريَّة بل العربيَّة، حتَّى لَيَصحّ القول: إنَّ شِعْر شوقي سِجِلّ للحياة العربيَّة الحديثة في مختلف شؤونها، ويكفي أنْ نَعْرِف أنَّ شوقيًّا الذي استقبل الزَّعيم الوطنيّ أحمد عُرَابي شَرَّ استقبال، يختم قصيدته العظيمة «توت عنخ أمون» بهذين البيتين:
زَمَانُ الفَرْدِ – يَا (فِرْعَوْنُ) – وَلَّى
وَدَالَتْ دَوْلةُ الـمُتَجَبِّرِينَا
وَأَصْبَحَتِ الرُّعَاةُ بِكُلِّ أَرْضٍ
عَلَى حُكْمِ الرَّعِيَّةِ نَازلِينَا
أخيرًا، آن لي أنْ أَصِل ما بين شاعرنا القديم الذي ملأ الخليفة فمه بالجواهر، وخلع عليه خِلْعة سَنِيَّة، والمثقَّف المعاصر الذي قصد بأدبه وفِكْره قارئًا لا يعْرفه، ولكنَّه يُجِلُّه، ويَعْرف له خطره في حياة الأُمَّة، وهو اختلاف عميق بين عصرين: عصْر قديم وعصر حديث، وفِكْرَيْن: فكْر صاغتْه مُصَنَّفات الأحكام السُّلْطانية وعهد أردشير وأدب النَّديم، وفِكْر نَمَتْه الفلسفة الحديثة، وصيحات قادة الرَّأي في الغرب والشَّرق، وذلك الاختلاف مَنَح المثقَّف الحديث فسحة واسعة لِيُنْشِئ آثاره خالصة للفِكْر أو الأدب، لا يُهِمّه إلَّا الحقّ وإلَّا قارئه الَّذي يرْضَى للحقّ ويَسْخط له، وهو، في العامِّ مِنْ حاله، يعيش مِنْ وظيفته التي يَمْنَحها سحابة نهاره، وحِين يؤوب إلى بيته يَنْفَح أهله وأبناءه ما اقتناه مِنْ كَدِّه ومِنْ تَعبه، بعيدًا عن البلاط وثقافته
(*) .كاتب سعودي